by استكتب

Share

by استكتب

Share

عطاء بن أبي رباح

تتجلى عظمة التابعين في بسطهم نفوذ العلم داخل فضاء مجتمعي، انتقل فيه الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عضوض. وما استتبع ذلك من توتر للعلاقة بين العالم والحاكم.

والتابعي الجليل عطاء بن أبي رباح أحد هؤلاء الذين رفعهم العلم مكانا عَلِيا، فلم يجد الحاكم بُدا من الجلوس بين يديه لطلب الفهم والتماس العون على حدث أو نازلة. ففي صغره كان عطاء عبدا مملوكا لسيدة من أهل مكة، وبلغ حرصه على العلم أن قسم يومه ثلاثة أقسام: أولها لخدمة سيدته وأداء حقوقها عليه، والثاني للاجتهاد في الطاعة وعبادة ربه، والثالث لطلب العلم وطرق أبواب من بقي حيا آنذاك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الحديث. حيث تذكر المصادر أنه تلقى العلم على يد أبي هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وغير من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى امتلأ صدره فقها وعلما ودراية.

تنبهت السيدة إلى شغف غلامها وحرصه على العلم فأعتقت رقبته تقربا لله عز وجل. فاتخذ عطاء من المسجد الحرام مقاما له طوال عشرين سنة، يفترش أرضه، ويتقرب في مصلاه إلى الله، ويفتي السائلين عن أمور دينهم ودنياهم.

وفي شهر ذي الحجة من السنة السابعة والتسعين للهجرة حج الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك مع ولديه إلى البيت العتيق. ولما انتهى من الطواف سأل رجلا من حاشيته عن مكان صاحبه، فأشار إلى الناحية الغربية من المسجد الحرام قائلا: إنه هناك قائم يصلي!

جلس أمير المؤمنين إلى حيث انتهى به المجلس، بينما كان الولدان يتأملان هذا الشيخ الحبشي الذي لم يؤد واجب التعظيم كما يفعل بقية الناس. فلما فرغ عطاء من صلاته حياه الخليفة وجعل يسأله عن مناسك الحج وعطاء يفصل القول في كل منسك ويسنده إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم.

فلما انتهى الخليفة من مسائله التفت أحد الغلامين إلى أبيه وسأله: كيف يأمر عاملك ألا يستفتي أحد غير عَطاء بن أبي رباح ، ونحن نسأل هذا الرجل الذي لم يوفك حقك من التعظيم؟

رد الخليفة قائلا: هذا الذي رأيتَ ذُلّنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح ، صاحب الفتيا في المسجد الحرام. ثم أردف:

“يا بَني تعلموا العلم، فبه يشرف الوضيع، ويعلو الأرِقَّاء(العبيد) على مراتب الملوك”.

لم يقتصر نفع عطاء بن أبي رباح على أهل العلم، بل امتد إلى أرباب الحرف والصنائع. وقدم نموذجا للفقيه الذي يفتح للبسطاء مغاليق الفهم، ويبلغ أحكامه ضمن منهج ومُيسر.

يحكي الإمام أبو حنيفة النعمان كيف أنه تلقى خمسة أبواب من فقه المناسك على يد حلاق في مكة، بفضل منهج التثقيف الشعبي الذي اعتمده عطاء. يقول أبو حنيفة :أردت أن أحلق لأخرج من الإحرام فأتيت حلاقا وقلت:

– بكَم تحلق رأسي؟

فقال : هداك الله.. النُسك لا يُشارط فيه، اجلس واعط ما يتيسر لك.

فخجلت وجلست. غير أني جلست منحرفا عن القبلة، فأومأ إلي أن أستقبل القبلة؛ ففعلت وازددت خجلا.

ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال: أدِر شقك الأيمن، فأدرته.

وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت، فقال: مالي أراك ساكتا.. كَبِّر!

فجعلت أُكبر حتى قمت لأذهب، فقال : أين تريد؟

-أريد أن أمضي إلى رَحلي.

فقال : صل ركعتين ثم امض على حيث تشاء !

فقلت له :من أين لك ما أمرتني به من المناسك؟

فقال : لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله، فأخذته عنه ووجهت إليه الناس!

وتأمل عبارتي ” يفعله ” و”وجهت إليه الناس” لتقف على الحكمة من تعلم الشريعة. فعطاء كان القدوة التي تتمثل أحكام الدين، فتطوعت النفوس لنقل أثرها وتداوله. وتلك هي رسالة الإسلام كما وعاها السلف الصالح !

إياس المزني ..نباهةُ قاضٍ

إياس المزنيلم يهنأ بال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز على قضاء البصرة حتى اختار له تابعيا جليلا، ذاعت فطنته في الناس وتغنى بها الشعراء! حيث أن أبا تمام لما مدح أحمد بن المعتصم جمع له الخصال في بيت مشهور قائلا:

إقدام عمرو في سماحة حاتم    في حِلم أحنف في ذكاء إياس

ولد إياس المزني بن معاوية في اليمامة سنة ست وأربعين للهجرة، ونشأ وتعلم بالبصرة. ثم تردد على دمشق ليأخذ العلم عمن بقي من طبقة الصحابة رضوان الله عليهم. وظهر نبوغه المبكر حتى صار حديث الناس وعنوانا على صدق الحديث ورجاحة العقل.

فطنة إياس المزني

ومن أخبار فطنته وهو بعد غلام أنه كان يتلقى دروس الحساب في كُتاب رجل يهودي. وحدث يوما أن اجتمع عند اليهودي بعض بني عشيرته، وتناولوا في حديثهم أمور الدين فقال أحدهم:

– ألا تعجبون للمسلمين، يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوطون؟

التمس إياس المزني من معلمه أن يتكلم، فلما أذن له توجه للسائل وقال:

– أكُل ما يؤكل في الدنيا يخرج غائطا؟

قال الرجل :لا

قال إياس: فأين يذهب الذي لا يخرج؟

رد الرجل: يذهب في غذاء الجسم؟

فقال إياس: إذن ما وجه الاستنكار منكم، إذا كان بعض ما نأكله في الدنيا غذاء أن يذهب كله في الجنة في الغذاء؟

كان إياس المزني سليل بيت علم ودين، وشاءت عناية الله تعالى أن يكون ذكاؤه في خدمة القضاء وحل المشكلات التي تعترض المسلمين في حياتهم اليومية. ففي فضاء مجتمعي دبت إليه عوامل الترف واهتزاز القيم، كان لا بد من فطنة تَصحب القضاء، ومن دهاء يُعين على رفع الظلم ورد الحقوق إلى أهلها.

مجمل الأخبار التي تناولت ذكاء إياس المزني في شبابه تكشف حاجة المجتمع إلى توظيف القدرات الفذة، وتوجيه المهارات وجهتها الصحيحة فيما ينفع الناس. لذا كان تعيينه قاضيا على البصرة من طرف الخليفة عمر بن عبد العزيز، دليلا على أن تولية “الأكفأ” هي عنوان الحكم الراشد.

من شواهد فطنته أن الناس خرجوا يوما يلتمسون هلال رمضان، وفي مقدمتهم الصحابي الجليل أنس بن مالك وهو يومئذ شيخ كبير. فنظر الناس إلى السماء فلم يروا شيئا، لكن أنس كان يحدق في السماء ويقول: لقد رأيت الهلال، ها هوذا.. وأشار بيده غير أن أحدا لم ير شيئا.

انتبه إياس إلى أن في الأمر خطأ، فلما دنا من أنس رأى شعرة طويلة في حاجبه تتدلى أمام عينه. فاستأذنه ومسح الشعرة بيده وسواها، ثم سأل أنس: أترى الهلال الآن يا صاحب رسول الله؟

أجاب أنس: كلا ما أراه.. كلا ما أراه!

دهاء إياس المزني

في مجلس إياس يتضح أن الدهاء من أهم الخصال التي ينبغي أن يتمتع بها القاضي إلى جانب العلم و السيرة الحسنة، خاصة حين يدب الفساد وتتراجع القيم. ومما يحكى في هذا الباب أن رجلا في الكوفة كان يُظهر للناس شيئا من الورع والتقوى حتى صاروا يتركون أموالهم عنده وديعة، ويجعلونه وصيا على أهلهم وأبنائهم.

وذات مرة استودعه رجل مالا، فلما جاء لأخذه أنكره الرجل وقال: لم تترك عندي شيئا. فتوجه صاحب المال إلى القاضي إياس ليُنصفه.

قال إياس : أعلم صاحبك أنك تأتيني؟

قال: كلا

قال: انصرف وعُد إلي غدا.

ثم أرسل إياس إلى الرجل وقال له: اجتمع لدي مال كثير لأيتام لا كافل لهم، ورأيت أن أودعه لديك، فهل منزلك حصين ووقتك متسع؟

رد الرجل : نعم أيها القاضي!

قال إياس: تعال بعد غد وأحضر معك حمالين ! ثم استدعى المشتكي وقال: اذهب إليه واطلب مالك، فإن أنكره فقل له: سأشكوك إلى القاضي .

عاد الرجل إلى المحتال وطلب ماله، وهدد برفع الأمر إلى القاضي، فأرجع له ماله وطيب خاطره. وحين توجه إلى القاضي ومعه الحمالون زجره إياس وفضحه أمام الملأ قائلا: بئسَ الرجل أنت يا عدو الله، أجعلت الدين مصيدة للدنيا؟

حقق حضور هذا التابعي الجليل في مجلس القضاء إضافة نوعية لأساليب فض النزاعات وردّ الحقوق إلى أصحابها. وكان لسيرته ومواقف فطنته ورجاحة عقله دور في ترسيخ النباهة كشرط من شروط تدبير هموم الناس!

صلة بن أشيم … الناصح 

صلة بن أشيمتكشف سير التابعين عن مدرسة قائمة بذاتها في الاتباع والأخلاق، وتثبيت الأقدام على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. مدرسة بذل أفرادها وسعهم لملاءمة النص مع سياق اجتماعي دبت إليه عوامل الترف والركون إلى الحياة الدنيا، كما شهد فضاؤه السياسي تقلبات وأحداثا بالغة الأثر.

كان صلة بن أشيم العدوي أحد التابعين الذين سعوا للتأثير في المجتمع، والتصدي لتجليات ارتخاء قبضة القيم الحميدة. واشتهر رحمه الله بين الناس بالزهد والورع، والإقبال على الطاعات. تصف زوجته معاذة أحواله قائلة: “كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا. ولم يكن يفتر عن العبادة في الحل والترحال”.

لكن صلة لم يكن من الزهاد الذين آثروا العيش في الظل بعيدا عن معترك الحياة وهموم المجتمع، بل أكد حضوره غير ما مرّة في مضمار التوجيه الاجتماعي، والتصدي لاختلالات القيم التي باتت تلوح في الأفق بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وانفتح المسلمون على سلوكيات وعوائد، وظواهر اجتماعية متعددة.

كان صلة يخرج إلى البرية خارج البصرة للخلوة والتعبد، فكان شباب البصرة يمرون به وهم في حال من اللهو والترف، وتزجية العمر فيما يسمى اليوم بأوقات الفراغ. فكان يخاطبهم برفق قائلا:

– ما تقولون في قوم أزمعوا سفرا لأمر عظيم؛ غير أنهم كانوا في النهار يحيدون عن الطريق ليلهوا ويلعبوا، وفي الليل يبيتون ليستريحوا، فمتى ترونهم ينجزون رحلتهم ويبلغون غايتهم؟

وحدث مرة أن شابا نهض وسط رفاقه قائلا: والله ما يعني بذلك أحدا غيرنا؛ فنحن بالنهار نلهو وبالليل ننام. ثم أعرض عن رفاقه ولزم صلة بن أشيم حتى فرقهما هاذم اللذات.

وكان يوما يسير مع بعض أصحابه، فمرّ بهم شاب يرتدي إزارا طويلا يجرّه على الأرض كما يفعل أهل الكبر و الخيلاء، فهَمّ أصحابه بالشاب ليزجروه ويُعنفوه فقال صلة بن أشيم :

– دعوني أكفكم أمره!

ثم أقبل على الشاب برفق وعطف قائلا:

– يا ابن أخي إن لي إليك حاجة.

رد الغلام: وما هي يا عمّ؟

قال صلة: أن ترفع إزارك، فإن ذلك أنقى لثوبك، وأتقى لربك، وأدنى لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

أجاب الغلام خجلا: نعم، ونعمة عين. ثم بادر لرفع إزاره.

فتوجه صلة لأصحابه مُذكرا بنهج الحكمة والموعظة الحسنة: إن هذا أمثل مما أردتم، ولو أنكم ضاربتموه وشاتمتموه، لضارَبكم وشاتَمكم، وأبقى إزاره مسدلا يمسح به الأرض !

تزوج صلة من ابنة عم له زاهدة وعابدة تدعى “معاذة العدوية”، ومن طريف ما ورد في خبرهما أنهما لما اجتمعا في ليلة العرس، قام صلة يصلي الركعتين اللتين حث النبي صلى الله عليه وسلم على أن يستفتح المسلم حياته الزوجية بهما. فقامت معاذة تصلي خلفه، وجذبهما سحر الصلاة فمضى يصليان حتى طلع الفجر!

ويواصل أبو الصهباء سيرته في النصح والحث على الخير، وغرس قيم البذل ونكران الذات في سبيل الله، ويحرص على أن يكون قدوة لمن خلفه، وأن يعمل بما يدعو الناس إليه، فيدفع بابنه إلى الشهادة في إحدى أبلغ مواقف التضحية . ففي سنة ست وسبعين للهجرة خرج صلة بن أشيم صحبة ابن له مع جيوش المسلمين المتوجهة إلى بلاد ما وراء النهر- وهي أرض تركستان التي تحتلها روسيا اليوم!-  فلما اشتد القتال وحميت المعركة قال صلة لابنه:

– أي بني، تقدم وجاهد أعداء الله حتى أحتسبك عند الذي لا تضيع عنده الودائع.

فانطلق الفتى يقاتل بكل ما أوتي من عزم حتى خرَّ شهيدا. فما كان من الأب إلا أن مضى على إثر الابن مقاتلا حتى ثوى إلى جانبه.

لما بلغ النعي مدينة البصرة، خرجت النساء ليواسين “معاذة” فقالت :

– إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحبا بكن، أما إذا كنتن قد جئتن لغير ذلك؛ فارجعن جُزيتن خيرا!

إن بيت صلة بن أشيم من البيوت التي يجدر بتاريخ الإنسانية أن ينحني لها إجلالا وتقديرا، وأن تتوارثها الأجيال كمرآة ناصعة لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في علاقته بربه وبمجتمعه.

STAY IN THE LOOP

Subscribe to our free newsletter.

Don’t have an account yet? Get started with a 12-day free trial

Leave A Comment

Related Posts