حين تخلص الإنسان القديم من الرعب الذي سيطر عليه، وهو يشاهد حيوانا أضخم منه، حمل قطعة حجر ورمى بها الوحش فأصاب عينه. وفي تلك الليلة وقف مزهوا داخل كهفه، يروي للعشيرة بطولته، ثم قام فرسم على جدار الكهف حيوانا وفي عينه قطعة حجر.

كيف برزت الحاجة إلى الكتابة الصورية ؟

ولمّا ضم إلى صدره طفله الأول، فكّر كيف ينقل إليه خبراته وتجاربه، فظهر على جدران الكهوف والمغارات شيء سابق على الكتابة، سيعرف لاحقا باسم “الكتابة بالموضوعات” أو ” الكتابة الصورية “، لأنه يعتمد على الرسم والصورة لنقل الخطاب في الزمان والمكان. برزت الحاجة إليه بسبب صعوبة احتفاظ الإنسان القديم بكل المعلومات اللازمة في ذاكرته، كتلك المتعلقة بالغذاء، وأعداد الماشية، وأدوات العمل.

هكذا وجد إنسان الكهف في الرسوم وسيلة لتأريخ أحداث اجتماعية، أو طقوس دينية. وصار الرسم الواحد يحكي قصة كاملة، قد تكون ترفيها على النفس في ليالي الشتاء الباردة، أو تعبيرا عن معتقدات، أو توثيقا لخبرات معينة في الصيد وجمع الطعام.

وتعود أقدم الرسوم إلى حوالي الألف الثلاثين قبل الميلاد، إلا أن الباحثين في تاريخ الأنظمة الكتابية، يرون أن أقدم دليل على استخدام الرسم في الكتابة يرجع للألف الخامس قبل الميلاد، في فترة الإنسان المعروف باسم موستير”Moustier” المتطور.

كانت مهمة الكتابة لدى إنسان العصر القديم هي نقل مدلول الخطاب، وليس نقل الخطاب صوتيا. وعندما يصعب التعبير عن كلمة بالرسم يلجأ إنسان الكهف إلى رسم رمزي قد يتوافق مع جملة كاملة. ولقراءة هذا النوع من أنواع الكتابة فليس ثمة حاجة لمعرفة هذه اللغة، حيث أن المدلول العام واضح من خلال الرسوم، ويمكن التغلب على بعض الرموز عن طريق تجزئة العبارة إلى وحدات.

مثال عن الكتابة الصورية

وفي هذا السياق يورد المؤرخ هيرودوت مثالا لرسالة منقولة باستخدام الكتابة الصورية ، حين بعثت قبائل الإسكيثيين، قبل خوض معركة ضد داريوس ملك الفرس، رسالة مضمونها: رسم عصفور، وفأر، وضفدعة، وخمسة سهام. وتولى مساعده جوديا تفسير مضمونها كالآتي:” أيها الفرس؛ إذا لم تتواروا في السماء كالعصافير، وتختبئوا في الجحور كالفئران، أو تقفزوا في الماء كالضفادع، فستصيرون هدفا لسهامنا!

لكن إذا كان من السهل تحويل التمثل العقلي للأشياء ك”رجل، امرأة، محراث، شمس، قمر”، أو الأفعال الحسية ك” ضرب، طار، بكى، شرب”، فكيف تمكن الإنسان القديم من التعبير عما هو معنوي، مثل العمر، والحُكم، والكلام؟

في هذه الحالة اضطر إنسان الكهف إلى وصف الرسم، أو إحلال الجزء محل الكل؛ فكان يكتفي برسم الفم للدلالة على فعل الكلام، وعلى المشي برسم قدمين متحركتين. وقد رصد الباحثون في مدخل مغارة باسيكا شمال إسبانيا رسما على اليمين للمغارة بجانب قدمين، ثم إشارة للمنع على اليسار؛ فكان المعنى العام يدل على عبارة” ممنوع الدخول للمغارة”.

بماذا تأثرت الكتابة الصورية

تأثرت الكتابة الصورية لدى الإنسان القديم بإحدى وسائل الاتصال اللحظية السريعة التي كان يعتمد عليها في التخاطب؛ وهي اللغة الإيمائية Gesture language. هذه المنظومة التي وُجدت في سائر الحضارات، وصارت فيما بعد أساسا للغة الإشارة التي يستخدمها الصم والبكم، ساعدت على تقديم نماذج لبعض علامات الكتابة. ففي الصين مثلا شكلت مجموعة من حركات الأيدي كتابة بدائية، حيث تم تصوير فكرة الصداقة والصديق على هيئة يدين ممدودتين بفتحة واسعة، كما ظهرت فكرة الشيخوخة على هيئة عجوز مُنحن وبيده عصا.

إلى جانب الكتابة الصورية اهتم إنسان الكهف بطريقة مماثلة للتفاهم، ونقل المعلومات، عن طريق استعمال الأشياء في صورتها البسيطة. فاستخدم الحجارة المرصوصة لتحتفظ الذاكرة بمكان شخص مدفون، أو يحشرها في جذوع الأشجار للدلالة على طريق صحيح.

وعندما يتتبع آثار أقدام فريسة، يضع كومة من أوراق الشجر في المكان الذي تتحول فيه الآثار باتجاه الغابة، كعلامة لمتتبع آخر بوجود صياد.

 

أشكال الكتابة الصورية

وعُثر لدى شعوب نيوزيلاندا القديمة على “رسائل عَصوية” نسبة إلى العصا، وهي هراوات من الخشب مستديرة الحواف، جرى استخدامها لتسجيل الأرقام والأحداث وأنساب القبائل، كما تصلح لنقل الأوامر المعقدة التي لا يمكن للغريب أن يفسرها.

وفي حضارة الإنكا تم ابتكار نظام معقد للعد وتسجيل العمليات الإحصائية اليومية يُدعى “كيبو”، وهو عبارة عن حبل رئيسي مشدود أفقيا، تُعقد به خيوط متعددة الألوان، تحزمها أنواع مختلفة من العقد، وتستعمل لتمثيل وقائع دينية واجتماعية. وبفضل بساطته وفائدته، استمر العمل به في بعض دول أمريكا اللاتينية، كبوليفيا والاكوادور، حيث يشرف عليه في كل مدينة وقرية موظفون يعرفون باسم ” qupu camayocos” أي ماسكو العُقد.

أما إحدى أكثر الأشياء إثارة للدهشة في هذا الصدد، فهي الأحجار المرسومة التي اكتُشفت في كهف ما دازيل Mas d’azil بجنوب فرنسا، ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. حجارة تم التقاطها من مجاري الأنهار، وأزيلت حوافها المدببة، ثم نُقش على سطوحها أشكال خطية ملونة وذات شكل هندسي. ويُرجح أنها تمثل أصولا للحروف الأبجدية الخاصة بالبحر الأبيض المتوسط.

حظيت الكتابة البدائية لإنسان الكهف بميزة رائعة، يقول يوهانس فريدريش، فالموضوعات لا تخبر شيئا بطريقة مباشرة، بل تستبدل هذه الموضوعات برموز خارجية مشابهة، حيث الجسد اليابس يُرمز له بالحجر أو حبات الذرة، والمستقبل الأسود بقطعة من الفحم الحجري. هذا الشكل المبكر أقرب إلى اللغز الصوتي الذي يُعبّر فيه الرسم على المفاهيم المجردة برسم آخر مماثل ومتطابق معها.

لا تزال الرسوم حتى يومنا هذا تحكي قصة.

 فاللوحات الفنية تنطوي رمزيتها الشائعة على قصة ترويها..

والعلامات الإرشادية المنتشرة في الطرقات والمطارات والأماكن العامة، ابنة شرعية لجهود إنسان الكهف وسعيه لابتكار لغة.

وواجهات المحلات التجارية تزخر بنماذج الكتابة الصورية التي قاومت هيمنة الأبجدية، فلايزال المقص يدل على محل الحلاقة، والملابس السوداء تعبيرا عن الحزن، وعشرات التماثيل المنصوبة في الميادين العامة عنوانا على أحداث فارقة في الذاكرة الوطنية!

في المحطة الثانية سنقف في بلاد الرافدين لنتحدث عن حكاية الطين المقروء؛ وقصة الكتابة المسمارية .

ـــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

– يوهانس فريدريش: تاريخ الكتابة

– د.خلف طايع: الحروف الأولى- دراسة في تاريخ الكتابة

– سليمان الذييب : الكتابة في الشرق الأدنى القديم.