السيرة النبوية لابن هشام

 

تعني كلمة «سيرة» بصورة عامة في القاموس الثقافي العربي: تاريخ حياة شخص، ولكنها إذا أطلقت، عَنَتْ تاريخ حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقد تستخدم كلمة «المغازي» للدلالة على الموضوع نفسه، إلا أن لفظ «السيرة» يشير إلى التاريخ العام للرسول (صلى الله عليه وسلم)، بينما تختص «المغازي» بجهاده وغزواته والسرايا التي أرسلها.

اهتم المسلمون منذ عصر فجر الإسلام بجمع أخبار الرسول (صلوات الله وسلامه عليه)، إلا أنهم لم يدونوا هذه الأخبار؛ إذ كان المسلمون يتورعون عن تدوين أي شيء عن رسول الله دون القرآن الكريم؛ حتى لا يختلط الأمر على حديثي العهد بالإسلام، إلا أن الالتزام سرعان ما انكسر؛ إذ بدأ المسلمون في تدوين السنة خشية أن يدخل فيها ما ليس منها من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة. وفي المرحلة الأولى من تدوين السنة، تحرى المسلمون ثبوت سند ما يدونونه؛ حتى يمكن أن يحكموا على أصالة ما دُوِّنَ. والسند هو سلسلة الرجال الذين نقلوا السنة عن الرسول إلى المدون، وفي هذه المرحلة المبكرة، افترقت السيرة عن السنة؛ إذ كان المسلمون يلزمون رواة السنة بشروط أخلاقية وعلمية متشددة؛ إذ إن السنة مصدر من مصادر الحكم الشرعي، بينما لم يتشددوا في الروايات المتعلقة بالسيرة، فكان بعض رواة الحديث من التابعين مثل «الحسن البصري» يروي ما لم يشهد من وقائع السيرة، دون أن يذكر عمن ينقل هذه الواقعة، وهو ما يسمى في علم مصطلح الحديث «الحديث المرسل».

وفي هذه المرحلة من تاريخ الإسلام، عرف عدد من التابعين وتابعي التابعين الذين اهتموا بجمع السيرة النبوية، منهم: «هشام بن عروة بن الزبير»، و«محمد بن شهاب الزهري» وغيرهم. ثم جاء «محمد بن إسحاق» فأوقف حياته على جمع الأخبار الدالة على حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإليه تنسب السيرة المسماة «سيرة ابن إسحاق»، وهو أول عمل علمي تمايزت فيه السيرة عن السنة، وقد أملاها بنفسه على تلميذه «زياد البكائي» مرتين، ورواها «البكائي» لـ«عبد الملك بن هشام الحميري»، ولكن «ابن هشام» لم يكتفِ بنقل السيرة النبوية كما بلغته عن «ابن إسحاق» ولكنه أعمل فيها ميزان النقد، فحذف منها الكثير مما لا يمت بصلة إلى موضوع السيرة، وأضاف إليها ما رأى أن يثري به النص، فأصبحت رواية «ابن هشام» مميزة عن رواية «محمد بن إسحاق»، وسميت روايته بـ«سيرة ابن هشام».

السيرة النبوية

يبدأ ابن هشام سيرته برصد نسب النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن خلال هذا الرصد يرسم صورة تاريخية واجتماعية لعرب الجاهلية من خلال بحث أنسابهم التي يرد قسمًا منها إلى نبي الله «إسماعيل» وقسمًا آخر إلى «القحطانيين»، كما يبحث الأصول التاريخية لنشأة مدينتي «مكة» و«المدينة» ويذكر بعض الأحداث التاريخية المهمة والسابقة على الإسلام، ثم يبدأ عرض مادة السيرة نفسها، وهي المادة التي يمكن تقسيمها إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول- يتناول فيه «ابن هشام» حياة الرسول (صلاة الله وسلامه عليه) قبل البعثة. والقسم الثاني- يتناول فيه الفترة بين البعثة وحتى الهجرة إلى «المدينة». والقسم الثالث- يتعلق بالفترة اللاحقة على الهجرة وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم.

في القسم الأول: يعرض «ابن هشام» بعض بشائر النبوة، ثم ميلاد النبي، يلحقها بطائفة من أخباره في طفولته وصباه وشبابه ورجولته، مبينًا دور النبي (صلى الله عليه وسلم) في العديد من الحوادث الهامة التي شهدتها «مكة»، مثل: حادثة إعادة بناء الكعبة، وينتهي هذا القسم بخبر البعثة.

في القسم الثاني: يتناول «ابن هشام» الدعوة إلى الإسلام في مكة في مرحلتها السرية، وإسلام الرعيل الأول من الصحابة، ثم الجهر بالدعوة، وما لاقى النبي والمسلمون الأوائل من عنت قريش، والأحداث الرئيسة في تلك الفترة، مثل: الإسراء والمعراج، والهجرة إلى الطائف، وإسلام الأنصار، إلى أن كانت الهجرة إلى المدينة.

في القسم الثالث: يتناول «ابن هشام» ما تلى الهجرة إلى المدينة من أعمال، بلورت شكل الأمة المسلمة الجديدة، كما يستفيض في هذا القسم في بيان الصراع العسكري مع قريش ومشركي العرب الذي انتهى بفتح مكة، ومؤامرات يهود والصدام العسكري معهم الذي انتهى بإجلائهم عن المدينة، وتهديدات الروم البيزنطيين وحلفائهم الغساسنة للدولة الناشئة وما تبع ذلك من أعمال مسلحة مثلت إرهاصات فتح الشام وتحريره من طغيان الروم، وتوسع الدعوة في الجزيرة العربية وإسلام العرب، إلى وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وينتهي هذا القسم بذكر «سقيفة بني ساعدة» التي وضع فيها أساس «الخلافة الراشدة».

تلقى المسلمون «سيرة ابن هشام» بالقبول، وعدت المصدر الأصلي والأساسي للسيرة النبوية، وسوف تجد صدى لها في كل كتاب تناول سيرة النبي، ابتداء من «الطبري» الذي استعان بأقسام كبيرة منها في كتابه «تاريخ الرسل والملوك»، وليس انتهاء بالمؤلفين الأجانب الذين تناولوا سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مثل «كارين أرمسترونج»، وقد شرحها غير واحد من العلماء، مثل: الشرح المسمى «الروض الآنف» لـ«أبي القاسم عبد الرحمن السهيلي الأندلسي»، كما نظمها آخرون شعرًا كما فعل «ابن الشهيد» في قصيدته المسماة «فتح القريب في سيرة الحبيب»، في بضعة عشر ألف بيت.

«سيرة ابن هشام» محققة ومطبوعة أكثر من طبعة، أحسن تحقيق منشور لها في رأيي تحقيق «مصطفى السقا» و«إبراهيم الأبياري» و«عبد الحفيظ شلبي»، وقد نشرها أول مرة «مصطفى البابي الحلبي» في القاهرة في مجلدين، وهي من روائع المطبوعات، ويندر الحصول عليها اليوم، فإن وجدت كانت غالية الثمن، ومع ذلك طبعت كثير من دور النشر التحقيق نفسه طبعات غير قانونية، وتدخلت بعض دور النشر بحذف مقدمة المحقق التي شرح فيها منهج التحقيق والمخطوطات التي اعتمد عليها.

وقد قام العالم ومحقق التراث «عبد السلام هارون» بتهذيب «سيرة ابن هشام»، فحذف منها الكثير من الأحداث التي لم تثبت تاريخيًّا ولا تؤثر في سياق السيرة، وحذف الإسرائيليات التي تسربت للسيرة، والأشعار الطويلة التي لا محل لها من السيرة، ونشر عمله باسم «تهذيب سيرة ابن هشام»، وهو كتاب جمع بين البساطة والدقة، وكنت دائمًا أرشحه في أي حلقة قراءة كمدخل لقراءة السيرة النبوية، والكتاب مطبوع ومتاح في أكثر من طبعة.

يمكنك الاستماع لتلخيص الكتاب من خلال رابط حلقة سلسلة مطالعة استكتب الخاصة بكتاب السيرة النبوية لابن هشام

 

كتب هذا التلخيص د.وسام محمد