مالية الفاروق

حميد بن خيبش _المغرب

من مواصفات الزعيم، أيا كان مجال زعامته، أن يقدم مصالح الآخرين على منفعته الخاصة، وأن يكون في الطليعة حين يتعلق الأمر بالتضحية والبذل والعطاء، ويقف في آخر الطابور إذا تعلق الأمر بالمكاسب. وهي بالطبع مواصفاتٌ صارت حبيسةَ المرجعيات والخطب والبيانات، بفعل التهافت المستمر على تحقيق المآرب الشخصية، وتمتيع دائرة خاصة من الأهل والأصدقاء بالامتيازات، مقابل التفريط الحاد في مصالح عموم الناس.

و الرجوع إلى التاريخ الإسلامي للبحث عن نماذج مشرقة ليست الغاية منه تقديسها، أو إدراجها ضمن المُسكنات التي تُخفف آلام الحاضر، وإنما السعي إلى اكتشاف المفاتيح التي رفعت أُناسا عاديين إلى مصاف العظماء، وحررت النفوس من هواجس الطمع والأنانية لتضرب أروعَ أمثلة البذل ونكران الذات.

شكلت المساحة الزمنية التي استغرقتها خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مشتلا للأفكار والمبادرات التي واجهت متطلبات المجتمع الإسلامي في فترة انتقالية بالغة الدقة. فالفتوحات بسطت رقعة الدولة، وضاعفت من حاجتها للموارد. كما أن التمازج الحاصل بين أجناس شتى تحت راية الإسلام أفرز ظواهر اجتماعية كان على الدولة أن تضع لها الحلول المناسبة، لضمان التوازن وتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي.

كانت مالية الفاروق رضي الله عنه مقيدة بالمنظور الإسلامي للثروة، وهو المنظور الذي يجعل من نفع العباد هدفا إنسانيا نبيلا. ويُمكن إجمال أسسه على النحو التالي :

أولا: المال مال الله، وهو وسيلة تقتضيها فطرة الإنسان وطبيعته، من حيث العمل والإنتاج والاستهلاك، وبالتالي فهو ليس غاية في حد ذاته.

ثانيا: العدالة الاجتماعية تقتضي تفتيت الثروة وتعميم المال، حتى لا ينحصر تداوله في أيدي فئة قليلة فيصير مدخلا للطغيان والاستعلاء. وتعتبر كل من الزكاة ونظام الإرث وسيلتين لتحقيق تلك العدالة.

ثالثا: الملكية الفردية هي ما يحمل الإنسان على المبادرة إلى الإنتاج المثمر والتعاون مع الآخرين، لذا تجب حمايتها وصيانتها ضمن الحدود المشروعة.

من هذا المنطلق أنشأ الفاروق مؤسسات لم تكن قائمة قبل خلافته، كبيت المال وديوان الخراج والمحاسبة، وديوان الإحصاء وغيرها. وانتهج سياسة متفردة لمراقبة الولاة، وتتبع طرق صرفهم للمال العام. بل وامتد اهتمامه إلى مواجهة مظاهر الترف في المجتمع، بحض الناس على الاشتغال بالتجارة والحرف والصنائع، وتدوير مدخراتهم في عجلة الاقتصاد اليومية حتى لا تصيبهم الوفرة بداء الخمول والكسل.

لكن الزعامة الملهمة لا تتفجر إلا في الأزمات، ولا يبرز النضج التدبيري والكفاءة سوى في المواقف الصعبة التي لا يملك الناس عادة سبيلا لمواجهتها. وقد كانت المجاعة الشديدة التي أصابت شبه الجزيرة العربية، واشتهرت في كتب التاريخ الإسلامي باسم “عام الرمادة“، امتحانا لصلابة المجتمع الإسلامي من جهة، ولزعامة الفاروق في إدارة أزمة لم يتسبب فيها عدو ظاهر وإنما كارثة طبيعية !

وجد الفاروق نفسه أمام نقص شديد في الطعام، تلاه طاعون عمواس الذي أصاب بلاد الشام، وقضى على قبائل بأكملها. فكان عليه تدبير مالية الدولة بشكل يضمن حياة الناس، ويعينهم على تحمل البلاء. لكن قبل الحديث عن الإجراءات التي اعتمدها، لابد لنا من وقفة مع النزاهة المالية التي يُعلنها كل الزعماء دون استثناء، إلا أن الوقائع والأزمات تفضحها.

ففي مستهل خلافته صرّح الفاروق رضي الله عنه من فوق المنبر قائلا:

” لكم علي أن لا أجبي شيئا من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه.

 ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه.

ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسد ثغوركم..”.

هل وفى الفاروق بوعوده أم أنها كانت مجرد طمأنة للناخبين إلى حين بلوغ سدة الحكم ؟

بالعودة إلى الإجراءات التقشفية، والتدابير المستعجلة التي اتخذها الفاروق لمواجهة الأزمة يتبين أن أول ضحية كان هو بطن الفاروق والمستوى المعيشي لأهل بيته. وكانت العبارة المأثورة عنه في مواقف عديدة قوله: ” حتى يحيا الناس”.

أول إجراء بادر إليه الفاروق هو تخصيص كل موارد بيت المال لإطعام الجوعى، فكان يقيم كل ليلة ولائم لعشرات الآلاف من أهل المدينة و قبائل البدو التي زحفت إليه بعد أن اشتد القحط.

ثم عمد إلى وقف تطبيق حد السرقة في ذاك الظرف العصيب، وهي خطوة تكشف عن فهم عميق لروح الشريعة، وبُعد نظر يستحضر يسر الدين وسماحة الإسلام.

وبعد أن استنفد بيت المال وجه رسائل إلى ولاة البلدان التي لم يصبها القحط كي يبعثوا إمدادات المؤن لمواساة المسلمين.

إلى هنا قد ينتهي جهد زعيم أو قائد يبذل كل مسعى لصيانة أرواح رعاياه في فترة حرجة، غير أن الفاروق سيمضي أبعد من ذلك، فينزل إلى الشارع ليعزز مظاهر التكافل الاجتماعي، ويحث الناس على تغيير عادات الترف وتبني الكفاف، فيدعوهم إلى التصدق بنصف الطعام قائلا: ” لن يهلك امرؤ على نصف قوته”، ويُدخل تعديلا على أسلوب الطهي للحد من السرف وترشيد الاستهلاك.

وخلال تنقلاته لاحظ الفاروق يوما أن روث الدابة التي يركبها يخالطه الشعير، فقال قولته الشهيرة: “المسلمون يموتون هزلا وهذه الدابة تأكل الشعير؛ لا والله لا أركبها حتى يحيا الناس !”

طوال هذه الأزمة لم يكن على مائدة الزعيم سوى الخبز والزيت، وحين يشتهي بطنه لونا آخر من الطعام كان يخاطبه بالقول: “تقرقر تقرقرك، فليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس”.  وحين رأى أحد أولاده وفي يده بطيخة صاح غاضبا : بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين ، تأكل الفاكهة وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هزلى ؟ ولم يهدأ حتى قيل له أن الصبي اشتراها بكف من النوى.

كانت مظاهر التشقف بادية على الفاروق في حياته الخاصة قبل الخلافة، فصارت في عام الرمادة عنوانا على زعامة ملهمة لا تشبع حتى يشبع الناس، ولا ينفرج همها حتى يضحك صبية المسلمين. وإذا كانت الأمور الاقتصادية تؤثر على عقيدة الناس وقيمهم المعنوية، إلا أن السياسة المالية للفاروق تدحض هذا الطرح الذي جاءت به الثورة الصناعية، وتؤكد أن رفع المستوى المادي للأفراد لا يقتضي بالضرورة تفكيك الدين ونبذ القيم.

لقد كانت الرسالة المحمدية مهمة أخلاقية شعارها: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وهي المكارم التي تصحب المال في حركته، إنتاجا واستهلاكا، وتوزيعا وتداولا. ولا شك أن الفاروق نقل المهمة  باقتدار إلى مضمار السياسة المالية وتدبير معاش الأفراد، فرسمت مواقفه وأفعاله ملامح الزعيم الملهم الذي لا يحيا حتى يحيا الناس !

 


 

Photo by Ali Arapoğlu from Pexels