المنظور الساحلي

قراءة في كتاب: الساحل البشري لجون آر غيليس  

 

تشهد سواحل العالم اليوم تدخلا بشريا بالغ الأنانية في نظامها الدقيق، بفعل العودة الملحمية التي يُدشنها إنسان العصر الحديث باتجاه البحر. فالاقتراب الذي بدا للبعض نوعا من المصالحة مع تاريخنا المائي، ومع ذاكرة الساحل التي تحفظ السجل الأقدم للإنسان العاقل، لم يكن اقترابا ذهنيا وثقافيا بقدر ما كان عودة ترفيهية واقتصادية، تكتسي يوما بعد آخر بُعدا تدميريا للمخلوقات الساحلية.

أصبح العيش على الساحل مليئا بالتحديات، وبحاجة لفهم متجدد لمختلف طرق العيش التي مارسها أسلافنا طوال مالا يقل عن مائتي ألف سنة، بدءا بالصيادين والبحارة القدامى، وصولا إلى المعماريين الهولنديين للأراضي المستصلحة.

بالغت الحضارة الغربية في ارتباطها بالأرض حتى بات من الصعب الانتباه للإنجازات المائية التي تشكل جزءا هاما من التاريخ الإنساني. فرغم أن البشرية كانت على امتداد التاريخ شبه بحرية، تحيا بجوار الأطراف والمجاري المائية إلا أن التنقيب والبحوث الأثرية تمسكت لفترة طويلة بالمنظور البري، كأن هويتنا تبدأ وتنتهي على اليابسة! فصار البحر بفعل التقاليد الإغريقية والرومانية بيئة غريبة وعدوانية، في مقابل ” غايا” أقدم آلهة الإغريق التي تجسد الأرض الأم. واكتسبت قصة عدن أساسا أسطوريا للمجتمع الزراعي، لتصبح الأرض محور جغرافية الكتاب المقدس، في مقابل التهديد الأبدي الذي تعلنه المسطحات المائية منذ طوفان نوح. ورغم أن شعوبا عديدة تبدي عبر الأساطير ارتياحها للساحل، وترى في اليابسة تربة خصبة جلبتها الآلهة من قاع البحر، إلا أن الكتاب المقدس ظل حتى أواخر القرن الثامن عشر نصا أساسيا للتاريخ والجغرافيا، يفرض حتى على الصيادين الرحل قصص الفقد والاسترداد المأساوية لجنة عدن. فكان من البديهي أن ينشغل الجغرافيون عن سبعة أعشار سطح الكوكب المغطى بالمياه، ويتأخر بالتالي ظهور علم المحيطات.

لم تلتحق فكرة الساحل كموطن للتجمعات البشرية القديمة بدوائر علم الإنسان إلا في منتصف القرن الماضي، حين تبنى الجغرافي بيركلي ساور سنة 1962 نظرية أن الساحل لم يكن آخِر الاختيارات البشرية وإنما نقطة البداية للمجتمع الزراعي، وأن القفزة العظيمة التي حققتها البشرية عبر الزراعة لم تكن مفاجئة، بل شكلت امتدادا للمهارات التقنية التي تعلمها الإنسان العاقل على أطراف الماء. وكشفت العديد من المواقع الأثرية صحة ما ذهب إليه ساور، حيث يتقدم موقع مونت فيردي في تشيلي عن أقدم موقع استقرار بشري على الأرض بما لا يقل عن ألف سنة. وتشير أدلة استهلاك المحار والأعشاب البحرية التي عثر عليها في هذه المستوطنة إلى أن السواحل أصبحت قبل عشرة آلاف سنة بيئات انتقالية، تتداخل فيها اليابسة بالماء وصيد السمك بالأنشطة الزراعية. أما لماذا بقي تاريخ الساحل خفيا حتى وقتنا هذا، فالأمر يرجع بالأساس إلى تذبذبات مستويات البحر التي ترتب عنها خلال المئة وخمسين ألف سنة الأخيرة مسح متكرر لسجل الاستيطان البشري على الساحل. ولم نتمكن من استكشافه إلا بمساعدة التكنولوجيا الحديثة لعلم الآثار المائي.

اتسمت المجتمعات الساحلية القديمة، أو جنس الحافة البشري كما يسميه جون.آر.غيليس، بنمط حياة مرتبط بالتنقل، وبدرجة أعلى من الصحة البدنية مع نسبة تكاثر منخفضة، بالإضافة إلى القدرة على التكيف مع الكوارث الطبيعية، وتوظيف التضاريس المائية في الطقوس والشعائر التعبدية، مما يفيد وجود تطور ثقافي. يقدم الموقع الأثري لسفح سكارا أقوى دليل على مساهمة الساحل في التطور الإنساني، فهذه القرية المحمية التي تعود إلى  العصر الحجري تزودنا بلمحة دالة عن مجتمع أطلنطي مكتمل التطور منذ خمسة آلاف سنة: منازل معدة بالأثاث الحجري، وأحواض لتنعيم الأصداف المستخدمة كطُعم للسمك ، وقنوات صرف صحي، إضافة إلى منحوتات تشير إلى نشاط رمزي أقرب إلى الكتابة، وغرف مقابر تحيل على جهود مبذولة للتواصل مع عالم الأرواح. إن أسلافنا، يقول غيليس، ليسوا هم المزارعون، بل هؤلاء الذين خلفوا بصمة خضراء على طول المجاري المائية.

تطورت حضارات الساحل ببطء وهدوء، ولم تُخَلف وراءها سوى القليل من السجلات والنصب التذكارية، لتظل بذلك الحلقة المفقودة في دراسة العالم رغم استمراريتها المثيرة لخمسة عشر ألف سنة. وتوقفت العلاقات والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية عند الشاطئ دون أن تمتد للعمق، فلم يظهر شعب بحارة حقيقي إلا منذ ستة آلاف سنة جنوب الصين، حيث أبحرت بضعة زوارق ذات مجاذيف باتجاه الغرب ليتم العثور على جزيرة مدغشقر، ثم يواصل هؤلاء إبحارهم البطولي لأول مرة إلى شرق إفريقيا محملين بالموز والسكر وجوز الهند.

شكلت الشعوب الساحلية ممارساتها الثقافية والاجتماعية عن طريق التجول على طول الساحل أو التنقل بين الجزر القريبة. أما التفكير في التوغل داخل البحر فظل مشوبا بكثير من الحذر والخوف، بل واكتسبت مخلوقاته بُعدا أسطوريا كالحوريات وخِراف البحر.

بدأت مرحلة قطع المحيطات نهاية القرن الخامس عشر حيث كانت معظم الأنشطة البحرية قبل ذلك تعتمد الإبحار عن طريق الالتفاف. ومما شجعهم على المغادرة بعيدا عن الساحل اعتقادهم الخاطئ بأن البحر ممتلئ بالجزر التي توفر تنقلا آمنا.

ظلت أوربا أكثر خوفا من البحر، واحتفظت بالطابع الساحلي للصيد و الأنشطة التجارية حتى أواخر القرون الوسطى، لكن تشكلت لاحقا نزعة الخلط بين الصيد والزراعة في بعض السواحل التي تقدم بيئة متكاملة الموارد، وبدرجة أعلى من الحرية واستكشاف الفرص، فتزايد الاهتمام بالتوجه نحو البحر سعيا خلف جزر ومؤن جديدة من السمك والقشريات لسد الطلب المتزايد. وبحلول أواخر العصور الوسطى تركز مزيد من الفقراء على طول السواحل بفعل النمو السكاني المتزايد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ليبدأ أول نموذج اقتصادي بحري بالتشكل، يتبنى فيه الفقراء الصيد البحري التجاري كعمل تفرغي.

أصبحت الامبراطوريات الأوربية في بداية العصر الحديث متمركزة بحريا أكثر منها على الأرض. وركزت الاستكشافات الأولية على مصبات الأنهار وضفافها الصالحة للملاحة، كما تتبعت الجزر المقابلة للسواحل لإدارة تجارة صامتة من على سطح السفن. وبرع الهولنديون في توظيف الخبرة الساحلية باستخدامهم الجزر شرقا وغربا، من فورموزا اليابان وسريلانكا وجافا، وصولا إلى سواحل الأمريكيتين لتبادل السلع وإنتاج السكر، وتجارة الرقيق.

تغلب الأوربيون على رعب المحيط بتخطيط وتسمية البحار القريبة من السواحل. وبسبب الازدحام الساحلي خلال القرن الثامن عشر ارتفعت نسب التسمية، وإن كان بعضها لا يخلو من طرافة لارتباطه بحوادث غرق أو إضفاء سمات بشرية عليه.

لم تكن عملية استيطان الساحل مجرد تأهيل للمكان، بل أيضا وضعه على الخرائط وهندسة سماته لتناسب الصناعة الحديثة. فباسم حماية الساحل تم بناء السدود والأرصفة المائية، وجرف الرمال ومصبات الأنهار والأراضي الرطبة، ضمن أسوأ مخطط لتدمير النظام الساحلي.

إن العداء القديم بين المدينة والساحل تحول لاحقا إلى صلح مرعب في عصرنا الحالي لكونه مصدرا للثراء الاقتصادي. وجرت إعادة اكتشاف العالم المائي لغايات سياسية واقتصادية، خاصة بعد أن خسرت الامبراطوريات الأوربية مستعمراتها الخارجية !

أنتج الاكتشاف المتجدد للبحر مطلع القرن التاسع عشر معرفة متزايدة بالبحر كمخلوق حي ثلاثي الأبعاد. كانت المحيطات قديما تُعد غريبة، و الإبحار عبرها ضرورة لا تخلو من شر. إنها أشبه بالصحراء، يجمعهما الفراغ المخيف. أما اليوم فقد مُنحت ثقافة وقوة جمالية عليا، وأصبحت ملجأ أمام بوادر التلوث في المناطق الصناعية.

انجذب العلم بدوره إلى البحر باحثا في أعماقه عن حلول للألغاز التي تعب في ترويضها على اليابسة، فكان الميلاد المتأخر لعلم المحيطات والسعي لاستكشاف طبيعتها. واكتسب الساحل أيضا ميزة علاجية بعد أن اتخذت الطبقة الإنجليزية الراقية من الشواطئ الرملية منذ مطلع القرن الثامن عشر فضاء للعلاج النفسي والجسدي. في المقابل استدعى هذا التحول إزالة سكان الساحل، خاصة صيادي السمك وجامعي النباتات، ضمن ما يسميه جين إيرباين بالاحتلال الجمالي للساحل عن طريق إيديولوجية قضاء الإجازة.

تمدد مفهوم الساحل اليوم بفعل الرمزية التي اكتسبها كفضاء للأحلام و الكوابيس معا! حيث اجتهدت السينما في تحويله إلى بيئة تهديد وخوف، وأضفت على مخلوقاته البحرية سمة الوحوش المتربصة برواده. لقد عاد الناس من المدينة إلى الساحل، لكن بأسلوب عنيف وخطِر، إذ أن التدفق باتجاه البحر في ظل ما يشهده العالم من تغيرات مناخية يُنذر بمستقبل عصي على التنبؤ، إن لم تبادر البشرية إلى اعتماد نموذج ثقافي جديد، ينبني على هدنة بين الأرض والماء، وتفهم للنظام الحيوي الذي يكتنف عيشنا على هذا الكوكب المائي!

 

يمكنك الاستماع لتلخيص الكتاب من خلال رابط حلقة سلسلة مطالعة استكتب الخاصة بكتاب الساحل البشري .