القارئ الكامن فيك

من سلسلة كيف تنتقي كتاباً من المكتبة

قبل أن نتجول سوية في ردهات المكتبات، ونختبر حدسنا في استكشاف محتوى الكتب من عناوينها، وتبين الخيط الرابط بين الرؤية الموجِهة وصورة الغلاف، قبل هذا وذاك لابد من مساءلة رغبتك في القراءة، هل هي جادة تعكس إيمانك بجدواها في عالم تزداد فيها المعارف احتداما، أم أنها نشوة عابرة، أو مسايرة لوضع شعرت خلاله بالحرج ؟!

على عكس ما تذهب إليه جل المقولات والانطباعات، فإن فعل القراءة جزء من الطبيعة الإنسانية، وأداء فطري لا يرتبط بنبوغ أو استثناء. فمنذ أن علم الله آدم الأسماء كلها والبشرية تقرأ دون الحاجة إلى توجيه مسبق.

يقرأ الصيادون آثار الحيوان في الغابة لتقفي خطاه.

ويقرأ لاعبو الورق ملامح وردود فعل منافسيهم قبل سحب الورقة الحاسمة.

ويقرأ المهندس الياباني طبيعة قطعة الأرض قبل تصميم البيوت بشكل يحميها من الأرواح الشريرة.

ويضع صياد السمك في جزر هاواي يده في الماء ليقرأ التيارات البحرية.

ويقرأ الفلكي حركة النجوم والكواكب في السماء ليُحدثنا عن الآتي، أو يكشف سر التباين الحاد في طبائع البشر.

وكلنا نقرأ في وجوه من نحبهم علامات السعادة والخوف و الاندهاش (1).

دون أن ننسى الحضور المؤثر في ثقافتنا الشعبية لقارئة الفنجان، وقارئ الكف والبخت والطالع!

إن الجميع دون تمييز يقرأ، أي يفكك العلامات ليستخرج ما فيها من معان. فما سرّ هذه الجلبة إذن، وهل الدعوات المتزايدة للقراءة بريئة حقا، ولا تريد منا جزاء ولا شكورا، أم الأمر مجرد تلميع لصورة قاتمة؟

 

القارئ الكامن فيك كيف تنتقي كتاباً من المكتبة

أسباب العزوف عن القراءة

هناك -برأينا- سببان للعزوف عن القراءة، وللحث المتواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والوصلات الإعلامية الخاطفة لتجديد صلة الرحم بالكتاب. السبب الأول له علاقة بطبيعة التمثلات السائدة عن فعل القراءة داخل مجتمعاتنا العربية، والتي أعتبرها وليدة الانكسار الحضاري لأمة “اقرأ” بفعل العوامل السياسية والاقتصادية وغيرها.

أما السبب الثاني فمرتبط بالمناهج الدراسية المعتمدة، والطرائق البيداغوجية التي تفتقد للدافعية وحفز الرغبة على مواصلة القراءة بعد إنهاء المشوار الدراسي. ولك أن تسأل اليوم أي طالب أو طالبة عمّا ترسّب في نفسهما إزاء القوالب والمعايير والتوجيهات الصارمة، لتدرك سرّ الابتعاد عن الكتاب فور تحقيق المراد!

إن للقارئ الكامن فينا وترا يعزف عليه فتسري في النفس كهربة الحنين إلى تصفح كتاب، والتوق إلى الكلمات والعبارات التي تضيء الزوايا المعتمة، وتفصح عما عجز اللسان عن وصفه أو ترجمته. وما من أحد إلا وعاش تجربة الكتاب الذي هزّ وجدانه، والقلم الذي فكّ أسره من قبضة الغموض والأسئلة. لذا فأنا لا أؤمن شخصيا بتقسيم المجتمع إلى فئة” القرّاء” وغير القرّاء. الكلّ قارئ لكن مع تفاوت ملموس في الأداء!

سبع وعشرين خرافة

عرض كل من ساجد العبدلي و عبد المجيد حسين تمراز لسبع وعشرين خرافة تبرر العزوف عن القراءة في مجتمعاتنا(2). بدا الرقم سبعة وعشرون كأنه مسايرة لموضة تسويق كتيبات التنمية البشرية التي غزت رفوف المكتبات في الآونة الأخيرة! أما كلمة خرافة فمدلولها مباين بعض الشيء لسياق العنوان، بالنظر لما تحيل إليه من طقوس ومعتقدات يدحضها العلم ويمجها المنطق السليم.

 على أيّ، فإن الكاتبين اجتهدا في حصر أغلب التمثلات التي يبرر بها البعض انصرافهم عن الكتاب، أو تأجيلهم النظر في اعتزالهم صفوف القراء. وما يُلفت الانتباه أن أغلب هذه التمثلات وليد نمط التفكير والأسلوب الثقافي الذي يروج له الإعلام، كتصنيف القراءة مثلا ضمن قائمة الهوايات، لا فرق بينها وبين السباحة أو جمع الطوابع البريدية!

 والحديث عن حب القراءة كأنه نزوع مبكر يبدأ منذ الطفولة، وبالتالي يصعب على البالغين اكتسابه في سن متأخرة! واعتبار الكتب الدراسية بديلا للقراءة الحرة، مما يعني ضمنيا حصر فعل القراءة في نطاق المؤسسات التعليمية، والفضاءات التابعة لها. ويبقى التمثل الأسوأ هو الحديث عن الفرجة السينمائية كبديل حداثي للقراءة، ونعي الكتاب الورقي أمام هيمنة البدائل التكنولوجية!

لا يحتاج القارئ الكامن فينا سوى للاهتمام، وتخصيص حيز له ضمن قائمة انشغالاتنا اليومية. وكما تحرص على توفير الغذاء لجسدك، والأحاسيس الجميلة لقلبك، والطموحات الفذة لقشرتك الدماغية، فإن القارئ الكامن فيك بحاجة كذلك إلى بضع صفحات تغذي عروقه، وتروي ظمأه للمعاني والأخيلة ونسغ الحيوات الثرية بالتجارب والمعاناة.

ويظل السبب الثاني للعزوف عن القراءة معلّقاً في انتظار مقالة لاحقة، نعرض فيها تجربة ممتعة لمعلمة أطفال نجحت في كسر قيود المناهج الدراسية لتنشئة جيل لا يتوقف عن القراءة!

القارئ الكامن فيك، هي المقالة الأولى من سلسلة كيف تنتقي كتاباً من المكتبة من إنتاج منصة استكتب لصناعة المحتوى.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- ألبرتو مانغويل : تاريخ القراءة. دار الساقي.ط1. 2001 .ص17

2- ساجد العبدلي وعبد المجيد حسين تمراز: 27 خرافة عن القراءة. الدار العربية للعلوم ناشرون. ط2. 2016

 

حقوق الصورة البارزة