مقتطف هرمس من الكتابة الهيروغليفية

الكتابة الهيروغليفية

كلمات تحوت في الكتابة الهيروغليفية

” كلمات حكيمة كتبتها يدي الفانية. استمرت باقية على طول العصور، مُضمَّخةً ببلسم الأبدية الذي أبدعه المعلم الأكبر. لم تكتشفها عيون العامة الرائحين الغادين، الجائلين في خضم الحياةِ القَفر. وظلت خافية حتى خلق الربُّ قديمُ الإحسانِ الكائنَ الإنساني الجدير بفهم حكمته”.

وبعد أن قال هرمس مقالته تلك عن الكلمات التي خطّتها يده، استقبلته رحاب الأبدية في مكانه العليّ.

يُنسب هذا المتن إلى الهرمسيات، وهي نصوص الحكمة التي خطّها الحكيم المصري “تحوت” حوالي عام 3000 قبل الميلاد.

قيل عن الحكيم “تحوت” أنه رسول الآلهة، ومرشد الأرواح في مملكة الموت. تحول بفضل حكمته إلى كائن رباني، فكشف للمصريين علوم الفلك، والطب، والهندسة، والإلهيات. لذا تصوره حائطيات المعابد والمقابر الفرعونية على شكل طائر الإيبس.

لكن يظل في مقدمة إنجازاته أنه اخترع الكتابة الهيروغليفية. لذا حظي باحترام المصريين ومناجاتهم له بكل تقدير قائلين:” تعال إلينا يا تحوت يا كاتب الآلهة العظيمة. ما أجمل صنعتك التي تُوَلد القوة والسعادة”.

نشأة الكتابة الهيروغليفية

نشأت الكتابة المصرية القديمة في حدود ضيقة. محصورة بين أيدي الكهنة وبعض الأسر. ومثلت رموزها وعلاماتها عناصرَ الطبيعة التي اكتنفت حياة المصري القديم، من حيوانات وطيور، ونباتات، وأجزاء الجسم البشري، فكانت أقرب إلى الرسم الفني منها إلى الكتابة.

نقش المصري عباراته على حيطان المعابد والهياكل الحجرية، تعبيرا عن امتنانه لهِبَة الآلهة، فسمى كتاباته “هيروغليفية”، وهي كلمة من مقطعين: هيرو  Hyro بمعنى مقدس أو ما ينتمي لملوك مصر ، و غليفGlyph   بمعنى الرسم أو الشكل ذو الدلالة الكلية. ثم صنع من سيقان نبات البردي نوعا من الورق، واتخذ من عيدان القصب المغطس في حبر أسود أو أخضر أداة للكتابة.

في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، خضعت الكتابة الهيروغليفية لتبسيط يسمح باستعمالها وتداولها في الحياة اليومية، فابتعدت أشكالها ورموزها التي تفوق خمسمئة رمز عن الأصل، وتشوهت بفعل سرعة الكتابة والتدوين. لذا يميز الباحثون بين الكتابة “الديموطيقية” المستخدمة في شؤون التأليف والتداول اليومي، وبين الكتابة “الهيراطيقية” التي خص بها الكهنة تدوين النصوص الدينية، إلى جانب الحضور المقدس للهيروغليفية في نقوش المعابد والمقابر.

تطورت الكتابة الهيروغليفية من الكتابة بالفكرة ذات المظهر الصوري إلى الكتابة بالكلمة الدالّة على الحسي والواقعي. غير أن البروفيسور يوهان فريدريش، العالم المتخصص في تاريخ الكتابة، يعتبر النظام الكتابي المصري نموذجا صعبا، لم يخضع تطوره الداخلي لحتمية التعاقب التاريخي. فالأبحاث المعمقة حول النصوص واللوحات التذكارية التي عُثر عليها، تكشف عن تجاور مبكر بين الكتابة بالفكرة واستخدام الرموز؛ بمعنى أن كل العناصر تزامنت وتم توظيفها متقاطعة مع بعضها البعض، وبالتالي لا توجد حدود واضحة بين الكتابة بالصور والرموز أو بالكلمة.

ما هي بنية الكتابة الهيروغليفية ؟

يمكن تحديد البنية الداخلية للكتابة الهيروغليفية في ثلاثة رموز كتابية أساسية:

أولا رموز دالة على الكلمات، أو الكلمة المصورة. واقتصر الأمر هنا بداية على استخدام رسوم تعبر عن مفاهيم وموضوعات محددة، دون مراعاة النطق، كالتعبير عن مفهوم “البرودة” برسم إناء ينسكب منه الماء، والإشارة إلى “الجنوب” برسم الزئبق الذي تشتهر به مصر العليا.

ثانيا الرموز الصوتية، وهي علامات تتشابه صوتيا لكن تختلف من حيث الدلالة؛ ساعدت الكاتب المصري القديم على استخدام رموز الكلمات القصيرة في إنشاء كلمات طويلة، والسبب في ذلك أن أصول الكلمات المصرية مركبة غالبا من حرفين، ويصعب تعددها إلى ما لانهاية.

ثالثا الرموز المقيدة، وهي رموز تكتب ولا تُلفظ، ومهمتها أن تشرح وتفسر المعنى. فكلمة “بيت” تدل أيضا على فعل “خرج”، لكن بإضافة رمز تقييد عبارة عن رسم لقدمين مفتوحتين. كما يضاف قرص الشمس إلى كلمات من قبيل: يوم، ظل، وشروق لتحديد المعنى.

أما بالنسبة لاتجاه الكتابة الهيروغليفية فالسائد فيه هو إما أفقي من اليمين إلى اليسار أو العكس، تبعا لاتجاه رؤوس صور الإنسان والحيوان، أو في اتجاه عمودي من الأعلى إلى الأسفل. ولم توجد قواعد خاصة لنقش الصور والرموز، فوُضعت بجانب بعضها دون ترك مساحات، لذا جمع الخط الهيروغليفي بين الكتابة والزينة في آن واحد.

كيف ألغيت الكتابة الهيروغليفية ؟

في أواخر القرن الرابع للميلاد حرّم الامبراطور ثيودوسيوس الوثنية على المصريين، وأمر بطرد الكهنة من المعابد وإغلاقها. كما أبطل استخدام صور ورموز الكتابة الهيروغليفية التي حل محلها مزيج من الأحرف اليونانية وبعض رموز الكتابة الديموطيقية الشعبية، وسمي النظام الجديد بالخط القبطي.

هكذا بقيت الكتابة الهيروغليفية سرا من أسرار قرابة 1400 سنة، إلى أن عثر أحد ضباط الحملة الفرنسية التي قادها “نابليون” على قطعة من حجر البازلت، أثناء أعمال الحفر في قلعة رشيد سنة 1799. كان النقش على الحجارة يتضمن مرسوما ملكيا أصدره بطليموس الخامس وتمت كتابته بالهيروغليفية، والديموطيقية، واللغة الإغريقية.

ساعد النص الإغريقي على فك رموز هذا الحجر، بفضل جهود شاب في مقتبل العمر، يدرس التاريخ في جامعة غرينوبل اسمه” جان فرانسوا شامبليون. فبعد محاولات مضنية من طرف “سيلفستر دي ساسي” و”توماس ينج“، اكتشف شامبليون خطأ أسلافه المتمثل في الاعتقاد بأن الهيروغليفية هي كتابة تصويرية أو صوتية، وتوصل إلى حقيقة نظامها المؤلف من مزيج بين الكتابتين معا، فوضع النواة الأساسية لحل رموزها اللغوية، ثم ألف قاموسا جمع فيه كثيرا من النقوش المصرية، وسماه ” آثار مصر وبلاد النوبة”.

ماذا قال ويل ديورانت عن الكتابة في مصر ؟

يقول ويل ديورانت في موسوعته (قصة الحضارة):

” ما من أحد زار متحف اللوفر، إلا وشاهد تمثال الكاتب المصري الجالس مطويَ الساقين، وجسمه يكاد يكون عاريا، ومن خلف أذنه قلم احتياطي غير القلم الذي يمسكه بيده، وهو يدون ما يقوم به، ويسجل ما يؤديه من العمل، وما يُسلّم من البضائع وأثمانها، ومكسبها وخسارتها.

يحصي الماشية الذاهبة إلى المذبح، والحبوب وهي تُكال للبيع، ويكتب العقود والوصايا، ويُقدر ما يجب على سيده من ضريبة الدخل”.

إن ما يريد ويل ديورانت قوله بصيغة أخرى، هو أن الكتابة شكلت رافعة لنظام اقتصادي وحقوقي غير مسبوق في ممالك مصر القديمة، وفي التاريخ بشكل عام.

لذا لم يبالغ المصري وهو يردد في المعبد بكل ضراعة: “ومن تبع الإله تحوت مخترع الكتابة المعبود، حفّته العناية”.

 

الكتابة الهيروغليفية هي المحطة الثالثة بعد حكاية الطين على الألواح المسمارية في سلسلة حكاية الكتابة التي نسعى من خلالها لتسليط الضوء على تاريخ الكتابة منذ نشأة الإنسان، تابعونا في المحطة الرابعة التي ستكون في بلاد الصين.

لمشاهدة الحلقة عبر يوتيوب من هنا

المراجع

– يوهانس فريدريش: تاريخ الكتابة.

– سليمان بن عبد الرحمن الذييب: الكتابة في الشرق الأدنى القديم.

– سليم حسن: موسوعة مصر القديمة. ج1