الهامسون بالكتب

إذا كان العزوف عن القراءة مرتبطا بالتمثلات ومواقف الأفراد من فعل القراءة، فإن لأنظمة التعليم السائدة أثرها الحادّ في تعزيز النفور من الكتاب، وربط حضوره بالتعليمات الواجب تنفيذها.

لقد أسهم التعليم في جعل القراءة المستقلة عملا بطوليا، لا يتأتى إلا لمن يرفع سقف التحدي أعلى مما تسمح به طاقة البشر. بينما الأمر يتعلق بحالة إنسانية يُفترض أن يعيشها الجميع دون استثناء. تغذيها الميول والمواهب، ويرعاها الشغف الذاتي والاقتحام المتواصل لدروب المعرفة !

لكن داخل هذه الفضاءات المسيّجة بالجدران والشبابيك، والمناهج الصارمة والخانقة، تحتفظ ذاكرة كلّ منّا بأسماء من ألهمونا متابعة السير في دروب القراءة دون قيود، وأصروا على ألا نقطع حبل المودّة مع الكتاب بعد أن نفرغ من مسلسل الاختبارات الطويل والمرهق.

  تعرض دونالين ميلر في كتابها (الهامسون بالكتب) تجربة مُدَرسة أطفال، دفعها شغف القراءة إلى إعادة النظر في الاستراتيجيات المتّبعة داخل الفصل الدراسي، واعتماد ورشة عمل وبدائل تحرر الأطفال من تبعات التدريس النمطي للقراءة.

الهامسون بالكتب

أغلب المدرسين يُعلّمون الأطفال بنفس الأسلوب الذي دُرّس لهم به؛ بمعنى أنهم يضعون نفس القيود التي أبدوا امتعاضهم منها وهم صغار. لذا قررت السيدة ميلر أنه بدل الوقوف على خشبة المسرح كل يوم لتوزّع المعرفة على رعاياها الصغار، ينبغي توجيههم لفهم أنفسهم، والسعي وراء تعلّم شخصي يربطهم بالكتب دون الحاجة لخيارات مفروضة: “بغض النظر عن مدى فعالية التدريس وحسن التخطيط له، إذا لم يكن فصلي المدرسي يمثل بيئة تحفيزية للقرّاء فإنه محكوم عليه بالفشل”. وفي موضع آخر تصرّح على نحو مؤلم قائلة:” حين تكون خيارات القراءة صادرة عن المدرس فإن الطفل لن يتعلم أبدا كيف يختار الكتاب بنفسه. فكيف يمكنه تشكيل هويته الذاتية كقارئ إن لم تتح له فرصة اكتشاف ما يحب ؟”.

هنا مربط الفرس!

يرجع سبب عزوف الكثيرين عن القراءة أنه لم يُسمح لهم، خلال فترة طفولتهم، تشكيل هويتهم الذاتية كقرّاء، وأن يُنضجوا سعيهم نحو القراءة وفق آلية حرة لا تتحكم فيها قاعدة صلبة أو توجيه صارم. فالجميع، كما أعلنا في الحلقة الأولى، قُرّاء مع تباين ملموس في الأداء. وهو الطرح الذي تؤيده ميلر حين تؤكد أن جميع الأطفال يأتون إلى الفصل محمّلين بخبرات متباينة عن القراءة. ولا يحتاج الأمر سوى اعتماد لغة إيجابية تعزز الحافز الشخصي للقراءة. فالطفل الذي تصنّفه منظومة التدريس “متعثراً” ستظلّ كفاءته القرائية دون المستوى بالنظر إلى الشحنة السالبة التي يُخلفها هذا التعبير في نفوس من يقررون مساعدته !

إنه بالأحرى قارئ ” ناشئ”، تسلل إلى نفسه اليأس من أن يصبح قارئا ماهرا، لمجرد حصوله على تقدير منخفض في أحد الاختبارات. ولو اعتبرناه قارئا بارعا، تلزمه فقط جرعة مكثفة ليلحق بأقرانه على مقياس تطور القراءة لتغير الأمر تماما!

الصنف الثاني هو القارئ “الخامل” الذي يملك مقومات القراءة لكنه يفتقد للحافز، فيصرف جهده لاجتياز الاختبارات والحصول على معدلات دراسية جيدة دون أن يتبنى القراءة كسلوك جدير بالاهتمام خارج المدرسة. لذا يهجر الكتب تماما مع حلول العطل الاسبوعية أو الإجازة الصيفية، ويختار ألا يقرأ لمجرد أنّه غير متحمس!

إنني أؤمن، تقول ميلر، بأنّ كل قارئ خامل يخفي داخله قارئاً، في مكان ما، لكنه بحاجة فقط للظروف الموائمة كي يطلق العنان لهذا القارئ الموجود بداخله؛ وهي الظروف نفسها التي يحتاج إليها القارئ الناشئ: قضاء ساعات طويلة في القراءة، والحرية في اختيار ما يقرأه بنفسه، وبيئة الفصل الدراسي التي تقدّر القراءة المستقلة.

ثم هناك القارئ “السريّ” الذي يتأرجح بين موهبته وما تفرضه عليه قواعد الفصل الدراسي ومعاييره. فتجده مُعرضاً عن الكتب التي يُطلب منه قراءتها لأنها لا تلبي رغبته. وكل ما يأمله هو أن يقرأ دون أن يتدخل المدرسون في شؤونه !

إنه قارئ يتمتع بقدرات عالية، وذوق رفيع المستوى في القراءة، ويُمكنه أن يدعم خطط المدرسين في تحسين قدرات زملائه في الفصل، شريطة أن يحظى بالاهتمام.

لا شك أننا نلمس في أنفسنا تماهياً مع أحد هذه الأصناف الثلاثة، ونستدعي من الذاكرة ما يؤكد حصول عزوف عن القراءة لسبب من الأسباب المذكورة. لكن لا يملك المرء خيارا آخر سوى الانضمام مجددا إلى حركة الهامسين بالكتب. عليه أن يجد وقتا للقراءة أو يستسلم للجهل الذي اختاره بنفسه، تقول ميلر، ومن خلال النماذج التي ساقتها لأطفال بلغ بهم الشغف حدّ قراءة الكتب في حوض الاستحمام، يتأكد مرة أخرى أن الكتاب وطن لا يمكن هجره بسهولة!

هل علينا أن نُسرع” في القراءة؟

ترقبوا حديثاً عن القراءة السريعة، بين الاحتياج والموضة!