التصميت

يفيد الصيام لغة الإمساك عن الأكل والشرب، وعن الكلام أيضا. فما حكاية صوم الكلام أو ما يُعرف بالتصميت أو الصُمات؟

ساد في فترة ما قبل الإسلام نوعان من الصوم؛ صوم أهل الكتاب عن الأكل والشرب، والصوم عن الكلام لدى الرهبان، ويتمثل في السكوت، والجلوس في الخلوات للتأمل في ملكوت الخالق سبحانه. ويظهر من الأخبار أن أهل الجاهلية تعرفوا على النوعين معا من خلال احتكاكهم بالنصارى و اليهود في شبه الجزيرة العربية، ومنهم من سلك مسلكهم هذا، فكان يمتنع عن الكلام، وينزوي في شعاب الأودية ليالي وأياما معدودة.

في قصة مريم عليها السلام يرد شاهد بأن الصوم عن الكلام أو التصميت كان معروفا لدى الأمم السابقة. ففي سورة مريم، الآية 26، نقرأ قوله تعالى:” فكلي واشربي وقري عينا. فإما تَرَينَّ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا“.

التصميت عند مريم بنت عمران:

وصوم مريم عن الكلام مطابق لما في شريعة قومها قبل بعثة المسيح عليه السلام، إذ كان اليهود في صومهم يحرم عليهم الطعام والكلام بل حتى الاستحمام، وارتبط الصوم في الغالب بالمصائب و الكوارث التي ألمت بهم، فكان مرادهم منه إذلالَ للنفس طلبا للتوبة،. واستمر هذا التشريع حتى في المسيحية، خاصة لدى الكاثوليك الذين يُلزمون به رجال الدين في ظروف مخصوصة، ويجعلونه مستحبا لغيرهم.

التصميت في استراليا:

لكن الطريف في الأمر أن هذا النوع من الصيام وُجد لدى قبائل في أستراليا، حيث ذكر كل من سبنسر وجيلان في كتابهما عن سكان أستراليا الوسطى أن المرأة التي يتوفى زوجها تظل صائمة عن الكلام لمدة طويلة قد تبلغ سنة كاملة. وتلتزم طائفة (الترابيست) الكاثوليكية بالصوم عن الكلام التزاما شديدا، وتفرض على أتباعها اعتزال العالم في خلوات، والإقامة فيها صامتين حتى الموت.

وفي الديانة الجاينية، إحدى ديانات الهند القديمة، يشير الكتاب المقدس “أوبافاسا” إلى ضرورة الامتناع عن ملذات الحواس الخمس، والكف عن الأكل و الكلام و الرؤية واللمس، ليبلغ الفرد حالة التركيز والانغماس العميق التي تُمكنه من السيطرة على النفس وتوجيهها.

غير أن الإسلام، في نسخه للشرائع السابقة، حرم صوم الكلام وأبطل ما كان يفعله بعض عرب الجاهلية من امتناع عن الكلام حتى مغيب الشمس؛ لأن في ذلك تعطيلا للذكر والتسبيح وتلاوة القرآن. وقد ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه :” لا يُتم بعد احتلام، ولا صُمات يوم إلى الليل” رواه أبو داود وصححه الألباني.

يروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة اسمها زينب، فلما رآها لا تتكلم سأل عن ذلك فقالوا: حجت مُصمتة، فقال لها أبو بكر: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت.

التصميت منهي عنه

نهى الإسلام عن صوم الكلام لكنه في المقابل أثنى على فضيلة الصمت وقَرَنها بحُسن الخلق، وضمت المكتبة الإسلامية مئات المباحث التي استعرضت فوائد الصمت، وما يتضمنه من خصال الخير. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ترك الإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي مبحثا غنيا اختصر فيه كتاب “الصمت” لابن أبي الدنيا، وسماه ( حُسن السَّمت في الصمت)، وعرض من خلاله طائفة من الأحاديث وأقوال العلماء والصالحين التي تثني على الصمت لكونه فضيلة أخف على الأبدان وأثقل في الميزان!