حين بلغ إلى سمع المستكشف الإسباني المتعصب دييغو دي لاندا أن سكان مدينة ماني يجتمعون في الخفاء، ويعبدون آلهتهم القديمة، أمر بجمع كل التماثيل ومخطوطات الكهنة، وإحراقها بشكل علني. ولما أعيد إلى إسبانيا جراء تصرفه الأرعن، حكى في كتابه “قصة الأحداث في يوكاتان” أن الإسبان اكتشفوا خلال هذه الحادثة عددا كبيرا من الكتب بلغة السكان الأصليين، لم تكن تحتوي سوى على خرافات وأكاذيب متعلقة بالشيطان، لذا أحرقوها.

 

حكاية كتابة المايا التي حُرق أغلب مصادر تراثها

 

في الواقع كانت هذه الكتب أثمن ما أبدعه شعب المايا في أمريكا الوسطى، فقد ضمت حصيلة ألفي سنة من المعارف الفلكية والرياضية، والتقاويم السنوية. ولم يُبق لنا التعصب الإسباني إلا أربعة مخطوطات، تكشف عن تقاليد الكتابة الهيروغليفية للشعب الماياوي.

ما هي أصول شعب المايا ؟

ترجع أصول الشعب الماياوي إلى الهنود الحمر الذين أسهموا في بناء حضارة أمريكا الوسطى. فإلى جانب النشاط الاقتصادي أنتج ذلك الشعب نماذج مرموقة في المعمار، والفن التشكيلي، والنحت، والخزف. أما الكهنة فيعود لهم فخر الكشفين العظيمين اللذين يؤسسان مجد أية حضارة، وهما اختراع الكتابة الهيروغليفية، وخلق تقويم سنوي يعتمد على حسابات فلكية شديدة التعقيد.

نماذج الكتابة الماياوية

طور شعب المايا نموذجين من الكتابة. الأول عبارة عن نقوش وثيقة الصلة بالمعمار وفن الزخرفة، جرى نقشها على النصب التذكارية، وجدران المعابد، وعوارض الأسقف، والأواني المنزلية. والثاني مرسوم على ورق “هوون” الذي أُنتج من لحاء شجرة التين حوالي القرن التاسع الميلادي.

وانطلاقا من شكلها الخارجي، يمكن القول إنها كتابة صورية، يدل فيها كل رسم على كلمة واحدة، واتخذت الرموز أشكالا مربعة وبيضوية، تقترب بشكل كبير من الكتابة الصينية؛ يمكن قراءة بعضها دون مساعدة اللغة، لأنها مدونة بكتابة تصويرية بدائية. بينما يتطلب البعض الآخر فك الرموز المعقدة، خاصة تلك المستعملة للدلالة على الأصوات، كالحرف الصوتي “كينKIN ” الذي يشير إلى الشمس، لكنه يدخل في تركيب كلمات لا تفيد معنى الشمس.

تحتوي كتابة المايا على نحو 800 علامة أو رمز تصويري، بينما يبلغ عدد الرموز المستعملة بين الكتبة حوالي 500 فقط. وهي تتضمن بُعدا دلاليا وبعدا صوتيا. فبعض الرموز تشير إلى كلمة معينة أو جذر الكلمة، بينما تُعبر العلامات الصوتية عن المقاطع المؤلفة من الصوامت والصوائت. ومعنى ذلك ان أية كلمة في النظام الكتابي للمايا يمكن هجاؤها بالرمز الخاص وفي الوقت نفسه كتابتها بصورة مقطعية صرفة.

متى اكتشفت كتابة شعب المايا ؟

في سنة 1863 حاول بي. دي بوربورغB.DE. Bourbourg تحديد ما إذا كانت رموز المايا كلمات مصورة أم كتابة صوتية، بعد أن اكتشف مخطوطا للأسقف دييغو دي لاندا يتضمن مجموعة من علامات كتابة المايا ومقابلاتها بالأبجدية الإسبانية. لكن تبين أن أبجدية “لاندا” تستند إلى لغة العامة التي تأثرت باللغة الإسبانية بعد الفتح، وهي تختلف بشكل كبير عن لغة الكتب ومخطوطات الكهنة. وبعد مضي قرن من المحاولات العقيمة لفك شيفرة كتابة المايا، أدرك العالم الروسي يوري كنوروزفKnorozov سنة 1952 أن ما تضمنه مخطوط لاندا هو في الواقع قائمة برموز مقطعية. وقد استلهم منها كنوروزف قواعد الكتابة، وحدد علاماتها في 300 علامة، بعد أن تعمق في دراسة عدد من الوثائق القديمة. ثم استنتج أن نظام الكتابة الماياوية هو نظام هيروغليفي، يجمع بين العلامات التصويرية والرموز الصوتية. فعلى سبيل المثال كان يتم التعبير عن كلمة كاتون، والتي تعني “عشرون سنة”، بمقطعين: الأول “تون” بمعنى حجر، والثاني “كا” يصور برسم يشبه شكل المشط.

مميزات الكتابة الهيروغليفية الماياوية

ما يميز كتابات المايا أيضا هو مراعاة الاعتبارات الجمالية في الكتابة وتصوير الرموز، حتى أن كلمة ts’ib في اللغة الماياوية تفيد معنى الكتابة والرسم في الآن نفسه. فكان إنتاج النص يتم أولا في إطار شبكة تخيلية قائمة الزوايا مثل رقعة الشطرنج، ثم توضع خطوط إرشادية تُصور بداخلها العلامات الكتابية من اليسار إلى اليمين، ومن أعلى إلى أسفل في أعمدة مزدوجة.

وتمتع الكاتب بحرية التصرف في إضفاء مسحة فنية على الرمز، وتحقيق التناغم ولو على حساب العلامة نفسها. يقول بول رادان :” لقد شغلوا أنفسهم كثيرا كي يتوصلوا إلى رسم متوازن ومتناغم، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار التعديلات والاعوجاجات التي تلحق على هذا الشكل بالكتابة الهيروغليفية. وكانت الفجوة التي تفصل أحيانا بين الكلمة وإشارتها كبيرة، لدرجة أن بعض المؤلفين تساءلوا ما إذا كانت كل الإشارات الهيروغليفية ذات أصل تصويري.”

وانعكس الاهتمام المتزايد بالبعد التشكيلي على حوامل الكتابة ذاتها، حيث انتقل الكاتب من التعامل مع المخطوط واللوحات الحجرية، إلى إبداع كتابات خطية على مواد مثيرة للإعجاب. فقد عثر الباحثون على نصوص منقوشة على زهريات، وعظام، وأحجار كريمة، وأصداف، ومقتنيات بالغة الأهمية.

كما أظهر التفكيك المتواصل للآثار الفنية التي خلّفتها الحضارة الماياوية أن الكاتب تبوأ مكانة اجتماعية مرموقة تعكسها التوقيعات والألقاب التشريفية التي ذيّل بها أعماله. بل إن بعضهم كانوا أعضاء في العائلة الملكية، ولهم آلهتهم الخاصة في المعابد.

تُظهر أغلب نصوص الماياوية الهيروغليفية أن الكاتب لم يبدع في ابتكار العلامة التصويرية فحسب، وإنما أنتج أسلوبه الخاص الذي يسميه مايكل د. كو ” التتابع الأولي القياسي”. وهو نص محكم الصياغة، يخطه الكاتب متتبعا استدارة الإناء الخزفي بحيث يتمثل اللغز في العثور على بدايته.

ويتضمن النص ثلاثة أجزاء تظهر دائما بنفس الترتيب:

– إهداء الإناء: ويبدأ عادة بإحدى علامات الاستهلال الست التي تمثل لدى الشعب الماياوي أحد الآلهة القديمة لجهات العالم الأربع.

– شكل الوعاء: وتعكس رموزه التصويرية نوعية الوعاء واستخدامه، حيث يتم التمييز بين المزهرية، ووعاء الشرب المستخدم عادة لتناول الشيكولاتة، وطبق ثلاثي الأرجل لحفظ التامالي، وهي وجبة مكسيكية من اللحم وطحين الذرة.

– محتويات الوعاء: وتُترك حرية التعبير عنها لمالك الوعاء، بينما يتولى الكاتب⁄ الرسام إبراز اسم الشيء وألقاب صاحب الوعاء، وإضافة رمز خاص إذا كان ينتمي للعائلة المالكة.

تكشف كتابات المايا عن درجة حضارية عالية، يعكسها الشغف بالخيال في إنتاج الرموز الكتابية، والتحدي الذي رفعته أماما عشرات الباحثين لكشف تركيبها الضمني، وآلاف الإيحاءات التي تفضي إليها العلاقة بين النص والصورة.

وإذا كان لهيروغليفية مصر القديمة خط قياسي أمكن من فكّ شفرتها، فإن تلك الحرية بغير ضوابط التي تمتّع بها كتبة المايا، تلقي حتى اليوم مزيدا من الغموض حول آثار مملكة سماها بول رادان: منبع الضياء!

 

كتابة المايا في حضارة المايا هي المحطة الخامسة بعد حكاية الكتابة الصينية في سلسلة حكاية الكتابة، التي نسعى من خلالها لتسليط الضوء على تاريخ الكتابة منذ نشأة الإنسان، تابعونا في المحطة السادسة التي ستكون في بلاد الفينيقيين.

لمشاهدة الحلقة عبر يوتيوب من هنا

 

المراجع

بول رادان: الحضارات الهندية في أمريكا.

مايكل.د. كو ومارك فان ستون: قراءة رموز المايا

يوهانس فريدريش: تاريخ الكتابة.