مامعنى التخليّة قبل التحليّة للوصول إلى التجليّة

 

كثيراً ما نسمع في الدّروس والخطب الدّعويّة في باب تزكية النّفس جملة “التخليّة قبل التحليّة للوصول إلى التجليّة”، فإيقاعها المتناغم وحروفها المُنمّقة ذات السّجع البديع يستوقفنا قليلاً للتّفكر في دلالات ألفاظها وفحص معانيها!

ويُقصد بالتّخلية تطهير النفس وترقيتُها والسّمو بها من رذائل الأخلاق كالحسد والكِبر والعُجب وأدران الأعمال وغيرها،

أما التّحليّة فتعني العمل بالطاعات والقربات والفضائل التي تؤهّل القلب للوصول لمرحلة التجليّة وهي السّمو بالروح والنّفس والعقل في سبوحات الأسرار والحكمة والملكوت.

ويرى البعض أنّ التخلية أساس وشرط للانتقال لمرحلة التّحلية وبدونها لا تكون النفس مستعدة للفيوضات القدسية التي يعكسها صفاء النفس!!

وهناك اتجاهان في تفسير المقولة؛ اتّجاه يتحدث عن تخلية القلب وتطهير النّفس من الكفر والشِّرك، وتحليتها بعد ذلك بالإيمان والهداية، وأرى هذا الاتجاه هو الأقرب للمعنى المقصود، بالرغم من قلة شرحها على هذا المُراد والمدار.

أما الاتجاه الآخر في شرح المقولة وهو الغالب على ألسنة الدعاة؛ أنها تطهير النفس من الرذائل والمعاصي والذنوب تماماً، ومن ثمّ تحليتُها بالطّاعات والقربات والعبادات!

وهنا لو أعملنا أداة المنطق والعقل في سبر المقولة؛ لوجدناها غير منسجمة مع طبيعة النّفس البشرية،
وغير متّسقة مع فطرتها التي جُبلت على الخطأ والنّسيان والتّوبة والإنابة، فالكلام المثالي الذي يتعذّر إسقاطه على الواقع غالباً لا ينفع الناس بشيء!

خلق الله سبحانه وتعالى النّفس البشرية وجبلها على المعصية والخطأ والنسيان والذنب ولندم والتوبة والإنابة، وهو كذلك ما بين طاعة وذنب ومجاهدة وزلة وخطأ ونسيان وهداية ورشاد ورجاء ودعاء يقضي حياته سائراً إلى الله تقيله العثرة ثم تقيمُه الصّحوة واليقظة.

فلا يُتَصوّر أن تتابع مراحل التخلية ثم التحلية وصولاً للتجلية بهذا الشكل المجرّد دون تمازج بين المراحل الثلاث وتداخلها وتأثير بعضها في بعض!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم” رواه مسلم.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

” كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ” أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ”.

ويفهم من الحديث الأول أنّ الله خلقنا بصفة ملازمة لنا؛ وهي الخطأ وفَتَحَ لنا أبواب التّوبة والإنابة رحمةً منه -عز وجل- حتى نشعر لذةَ الرّجوع بعد الأُفول.

أما في الحديث الثاني فوردت كلمة “خطّاء” وميزانها الصرفي على وزن “فعّال” أي متكرر الحدوث والتلازم ولا تنفك هذه الخصلة عن صاحبها، فهو دائم الفعل لهذا الأمر.

وطالما أن هذه الصفة دائمة في البشر فلا يُتصور صحة مشروطية التخلية للوصول إلى التحلية ومن بعدها التجلية!

فالإنسان لن يصل للكمال مهما جاهد نفسه، والحقيقة أن كمال النفس البشرية يكمن في نقصانها وزللها وتقصيرها الدائم، لأن الكمال ليس إلا لله، وقد جعل الله عز وجل الأفضليّة للذي يخطيء ويتوب عن من لا يخطئ أبداً، فضلاً عن عجز الإنسان عن معرفة المرحلة التي يصل فيها يقينه إلى أنه انتهى من التخلية وتطهير القلب حتى ينتقل إلى المرحلة التالية، وهل يضمن ألا يعود إلى مرحلة ما قبل التجلية أو التخلية –لمجبوليّة نفسه على الخطأ- للبدء من جديد؟!

التخليّة قبل التحليّة في القرآن

قال تعالى: “إن الحسنات يذهبن السيئات” هود 114
وقال ابن القيم رحمه الله: “إنّ الذنبَ قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة ويعمل الطاعة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه فيحدث له انكساراً وتوبة واستغفاراً وندماً فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجباً وكبراً ومنة والإطراق بين يديه منكساً رأسه خجلاً باكياً نادماً مستقيلاً ربه، وكل واحد من من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة وكبراً وازدراءً بالناس ورؤتيهم بعين الاحتقار”

وفي شرح كلام ابن القيّم قال العلماء إن دخول الجنة ليس بسبب الذنب، وإنما هو بسبب التوبة، كما قال الله تعالى عن عباده المتقين:

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ” آل عمران:136

فالتخلية والتحلية والتجلية منظومة متكاملة ومتفاعلة، كل مرحلة فيها تخدم الأخرى، فتضع الإنسان على طريق المسير إلى الله مقراً بذنبه غير معتمد على كثير عمله.

 

رانية نصر باحثة دكتوراه في الدراسات الإعلامية