بقلم رانية نصر من فلسطين – تركيا

بكالوريوس إعلام

رسالته الأخيرة إليها…!

كان يعلم أن لا سلاح له في وحدته سوى دمعة تتقدم في وقارٍ وهدوء جوف كل ليلة .. كان تحررها من موقدها بطئٌ جداً، أبطأ مما يتقدم به السن في تلك الزنزانة الباردة والمظلمة؛ التي اعتادت أن تقتات على جسده وحزنه مدى سنوات طويلة.
سنوات، امتصت عود شبابه ومنحته خطوطاً في وجهه أعمق من كل الخطوب التي مر بها في حياته، لكن يقينه بالله كان ينتصر دائما في كل معركة فكرية يخوضها مع نفسه، يقينه كان أقوى من شبح تلك الدمعة النحيلة، دمعة صنعت من ماء الحزن هيهات أن تنتصر على إرادة صنعت من نار وغضب!

وماذا يصنع الحزن بروح خلقت من حديد ولهب !!

فما كانت تفتأ أن تسيل في كل مرة حتى يعيدها إلى غمد مآقيها، وكثيرا ما كان ينفض الحزن عن أفكاره، ويستل سيف الأمل ليحارب به شيطان البؤس والكآبة، فالذي ذاق طعم السجن والوحدة لا يكسره شيء بعدها؛ حتى الموت نفسه !

بالرغم من جنون الأفكار في رأسه وتدافعها بقوة، بالرغم من تزاحمها للظفر بشغل وقته كُله، كان يحاول ركلها، كان يحاربها بالدقائق التي لا تكاد تمر عليه إلا بشق الأنفس ، وكذا كان يفعل كل يوم .

لكن نظراتها البريئة التي كانت مرسومة على جدران ذاكرته وذكرياته ، ومحفورة بالحب على أبواب قلبه ، كانت تذبح كل قوة يتصنعها أمام نفسه .. فلا تُقهر الرجولة إلا بالطفولة.

ذاك السياج الذي كان له بمثابة سد صاحب القرنين، كان نافذته الوحيدة على العالم .. كانت أقصى أمنياته أن يُلقِ بنظراته في أحضان عينيها .. نعم، كان كما الطفل الصغير الذي يعتبر حضن أمه هو العالم الأوحد، ولا عوالم دونه أو بعده.

فالنظر إلى عينيها هو الأمان الذي فقده عندما تركها رضيعة.

شرع يكتب لها رسالة الوداع .. طفلتي ستكبرين يوماً، وربما لا تجدين من والدك سوى هذه الرسالة المعبقة برائحة شوقي وحنيني إليك، ستعلمين يوماً يا صغيرتي أن ضريبة عشق الأوطان غالية جدا، وأن لا حياة سوى حياة الكرامة والعزة لشعب لم يعطِ في دينه الدنية .. حياة الذل لا تعشقه الرجال، إما حياة شريفة أو روح شهيدة .. و الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت الحياة، وهي من سنن الإله في الأرض، فحياتنا قد سخرناها للحياة الحقيقية .. التي ما بعد الموت.

الزنزانة باردة جداً بالرغم من حرارة الصيف .. وأنا بلا معطف يدثرني في غربتي هنا سوى ذكرى صوت ضحكاتك، ولمسة دفء من كفيك على وجنتيّ .. قد أرسلت إليك قبلاتي هذا المساء ، على جناحي طائر جميل .. وقف على نافذة زنزانتي .. خذيها وانسجي منها معطفاً يدثرك حين يشتد جوع شوقك إلي .. إني أراكِ في قلبي كما لا أرى شيئاً ..

أنهى رسالته بتلك الكلمات، ثم نام نومة عميقة لم يفقْ من بعدها إلى الآن.

حقوق الصورة البارزة