تجليات النسق الاجتماعي

توطئــــــة:

تعد رواية النخر ثاني عمل إبداعي يكتبه إبراهيم سعدي بعد روايته الأولى: المرفوضون، وقد ظهرت رواية النخر في نهاية الثمانينات كثاني خطوة يخطوها الأستاذ إبراهيم سعدي في طريق الإبداع الأدبي.

والرواية رغم بساطة أحداثها وسلاسة لغتها، إلا أنها تمتاز بعمق طرحها الفكري بطريقة فلسفية، تجسد لنا خصوصية المجتمع الجزائري الاجتماعية والثقافية بعد الاستقلال متخذا من مؤسسة الزواج البوابة من أجل النخر والتفتيت في أهم القضايا الاجتماعية والثقافية، وقد أكد الروائي إبراهيم سعدي في إحدى حواراته مع جريدة المساء” أن الرواية هي وثيقة الارتباط بالحياة، فهي تعيد تشكيل الواقع بإدخال بعض التغيرات عليه”.

من خلال قراءتنا لرواية النخر، لاحظنا بروز النسق الاجتماعي/ النسائي بقوة، فقد عمد الروائي إلى تفكيك العلاقات النسائية داخل المجتمع الجزائري، من خلال عرضه لنماذج نسائية مختلفة، بحيث تشترك هذه النماذج في سيطرة الظروف المعيشة في المجتمع الجزائري على ذواتهن كإناث.

وقد تميزت نماذج الروائي النسائية باختلافها، فنجد كل شخصية تعرض لنا نوعا من معاناة المرأة في مجتمع جزائري حديث الاستقلال يتخبط بين كابوس الماضي وحلم المستقبل.

انطلق الروائي من هذه النقطة واتخذها موضوعا خصبا للتعبير عن عالم المرأة المحلي والمتمثل في بيئة البيت، من خلال عرضه لتجارب الزواج ، الحمل، الوضع والرضاعة، كما تعرض لعلاقة الأم بابنتها، وعلاقة المرأة بالمرأة، وقد تعمق الروائي إبراهيم سعدي في الأمور الشخصية والعاطفية الداخلية للمرأة، فقد بحث في ظروف عيشها وأبرز انشغالاتها الاجتماعية والنفسية في ظل أعراف وتقاليد المجتمع البالية وفي سلطة الرجل/ الأب/ الزوج/ الأخ.

القضايا المتعلقة بالمرأة في رواية النخر للروائي إبراهيم سعدي

سنحاول استجلاء القضايا المتعلقة بالمرأة في الرواية من خلال الشخصيات النسائية المتنوعة والمختلفة في هذا الخطاب الروائي.

1-آفــة الغيــرة والحســد

تتجلى غيرة المرأة من خلال شخصية شابحة زوجة بوعلام، والتي تظهر في الرواية بعدما يطلق عبد القادر ابن باية زوجته علجية ابنة زوجة بوعلام الأولى، فتتأجج غيرة شابحة منها، خاصة عندما علمت بأنها سقيم معها تحت سقف بيت واحد، فشابحة امرأة ” غيورة وشريرة ولكن في الدفاع عن حقها”، خاصة عندما رأت شابحة ” الخل بوعلام يدس يده الخشنة ذات العروق البارزة في صدر علجية المستغرقة آنذاك في النوم”، وهنا تتمرد شابحة عن كل القيم للدفاع عن زوجها بوعلام والاحتفاظ به، عندما تأتي علجية للإقامة معها، خوفا من كيدها.

وهنا تصبح المرأة شريرة تحت تأثير عاطفة الحسد النابعة من أنوثتها، ومن خلال خيالاتها، حين قالت لعلجية:” لو أنك ما جئت إلي لتنازعيني لقمة العيش وسقف البيت…إن كنت تحسبين العيش معي أنا سيكون سهلا مريحا فأنت مرتكبة في هذه الحالة خطأ”، فالحسد هنا ولد في نفس شابحة النميمة والشكوك والغيرة من أن يقوم بوعلام بالتخلي عنها في سبيل علجية ” منذ بضعة أعوالم وهو يولني ظهره في الفراش…ربما يعود إليه الآن شبابه بعدما طلقت الرومية وأصبحت أكثر جمالا مما كانت عليه…أجل…صارت أكثر جمالا هذه الساحرة أو المجنونة أو الجنية…”.

فالغيرة هنا تدفع شابحة إلى انتقام صريح من علجية من خلال جعلها خادمة لها فعلجية تقوم بكل أعمال البيت، بينما شابحة تقوم بإصدار الأوامر فقط ” فالمرأة لا ترتكب الشر للشر بل تلجأ إليه مكرهة دفاعا عن نفسها وعن زوجها وأطفالها”. وهذا ما لجأت إليه شابحة عندما اتخذت السحر والشعوذة كوسيلة للمحافظة على سعادتها.

فشخصية شابحة هنا تجسد نموذج للمرأة الغيورة على زوجها الحاسدة لجمال أنثى غيرها، المرأة اللعوب من خلال إقدامها على إيذاء غيرها عن طريق السحر والشعوذة ، المرأة النمامة في باية فهي” تجد لذة عجيبة في سرد بعض الأقاصيص عن كل ماوقع لهن من خصومات…باذلة قصارى الجهد في تحوير النزاع وتشويهه”، فلم تترك أحدا من أهل القرية لم تحكي له عن ظلم باية لها” باية أعرفها مثلما أعرف كم أصبعا في يدي… ستندم شديد الندم على سوء عملها… أنا التي ستخرب بيتها…سنرى من منا أقوى من الأخرى في الخير أو في الشر…”.

2- آفـــــة التسلط والهيمنة

كانت المرأة في المجتمع الجزائري لا تتزوج برضاها، وإنما والد الفتاة هو الذي يفرض عليها الزوج باعتباره الرجل المناسب والأصلح لها وقد عالج إبراهيم سعدي هذا الطرح في الرواية من خلال إرغام والد فاطمة لها على الزواج بدحمان، رغم رفضها له، ويجد الوالد المساندة من قبل زوجته والتي بدورها تخضع لأوامره، فبدل الوقوف بجانب ابنتها والدفاع عنها في عدم قبولها الزواج بدحمان، تقول لها:” هو والدك ويحق له أن يعطيك لمن يشاء”

هنا نلاحظ معاناة فاطمة من خلال تقييدها ومنع الأهل لها مواصلة دراستها وحتى الخروج من البيت، وبعد الوالد هنا كعامل مسيطر يفرض أوامره وعلى فاطمة الأنثى الانصياع لتلك الأوامر، فما كان من فاطمة إلا أن قبلت الزواج من دحمان على أن تظل محبوسة في غرفتها طوال حياتها، وتواصل الزوجة/ الأم الدفاع عن زوجها/ الأب أمام ابنتها فاطمة”فقد أكدت لها في آن واحد بأن أباها رجل عظيم، لا يمكن أن يجانب الصواب عمله، وبالتالي سوف تلقى كل السعادة والهناء مع من اختار لها شريكا لحياتها”.

وهناك نوع ثاني من التسلط والهيمنة وهو تسلط المرأة على المرأة، وهو ما يعود بنا إلى سيطرة المرأة في المجتمع الأمومي، حيث تلعب الأم باية باعتبارها الأكبر سن دور الزعيمة في بيتها، فهي التي تقوم بالإشراف على البيت وتقسيم الأعمال بين نساء المنزل وهي التي تقوم بالتسوق ونشر الغسيل حتى لا يرى الجيران والمارة زوجات أولادها، وهي بتلك السيطرة والتحكم تقوم بمحو شخصية تلك النسوة، ولكنها تجد المقاومة من زوجة دحمان فاطمة، والتي ترفض دائما الانصياع لأوامرها والثورة عليها، وهذا الصراع الدائم بين تنفيذ الأوامر ورفضها جعل من حياة كل  من في البيت تصبح جحيما ” فالنزعة للسيطرة الغاشمة أدى بتهدم بيت باية على رأسها ورؤوس أولادها”.

3- آفـــة الجمال والكبرياء

” المعروف لدى جميع النساء أن جمالهن هو معبودهن الوحيد، فهن يرغبن هذه المفاتن حتى تبلغ درجة تحسدهن عليها الكثيرات، ممن لم تعطهن الطبيعة قسطا وافيا من الجمال والفتنة والإغراء”.

ومن بين الشخصيات النسائية المفتونة بجمالها، نجد شخصية فاطمة نموذجا للمرأة الفاتنة، والتي تتمتع بقدر كبير من الجمال” كنت الأولى دائما…حتى في الجمال لو رأيتني آنذاك لاندهشت مني”، كما أن المرأة الجميلة ترى أن الناس لا يقدرون جمالها وسحرها فهم دائما لا ينصفونها، فعندما ردت شريفة على فاطمة بقولها:” لا تزالين إلى اليوم جميلة جدا” لم تعرها فاطمة أية أهمية وكأنها لم تسمعها تقول ذلك، فكانت فاطمة تتحدث عن جمالها بكبرياء وتفاخر” كانت جميلة، غاية الجمال، تثير الحسد في نفوس الفتيات، والإعجاب في نفوس الفتيان، فالله وهبها كل شيء، الحسن والبهاء والذكاء…لم تعرف لها صديقات كثيرات بسبب جمالها الخارق”.

ورغم الجمال الذي تتمتع به فاطمة والذي أوقع دحمان في شباك حبها إلا أن هذا الأخير الذي أصبح زوجها فيما بعد، صار ينفر منها من ” فرط غطرستها وشموخها وغرورها”.

وهكذا فقد قتل كبرياؤها حب دحمان لها، مما أدى به لخيانتها والإدمان على شرب الخمر، فهي على مدى عشر سنوات لم تتعامل مع زوجها إلا بلغة السب والشتم، فلم تجد في الأخير من سبيل إلا الهرب مع أولادها من زوجها.

4-آفـــة البــغاء والإغــواء

كثيرا ما تنحرف المرأة عن الطريق الصحيح للحياة، بأن تصبح من بنات البغاء، وهناك دوافع كثيرة لممارسة هذا الفعل، وتختلف الأسباب من امرأة لأخرى.

أورد الروائي نموذجا يجسد فعل البغاء والإغواء من خلال شخصية وحيدة الأرملة ” تزوجت في سن الرابعة عشر، زوجها كان كوميا ذبحه المجاهدون”، وقد لعب زوج وحيدة دورا كبيرا في انحرافها نحو البغاء، بحيث كان يحضر الفرنسيين إلى بيته كي يتمتعوا بجسد زوجته وحيدة، وبعد قتله لم تجد وحيدة من حل سوى الرحيل عن القرية ” لأنها عاهرة والناس هناك يعرفون بأنها ضاجعت الفرنسيين”، فانتقلت إلى العاصمة حيث وجدت نفسها” مضطرة على البغاء في المهنة رغم إرادتها”، فهي بحاجة إلى المال كي تعيش، فكانت وحيدة المرأة التي أغوت دحمان، فعشقها وهام بحبها، رغم علمه بكل تفاصيل حياتها، فصار يقضي معظم وقته معها، إلى درجة أنه طلب يدها للزواج، غير أن وحيدة الباغية تتوقف عن عملها طامعة في الحصول على حياة عادية وزوج يحبها، فتقطع كل علاقاتها بعالمها الماضي حالمة بمستقبل أحسن وأنقى، ويظهر ذلك جليا في الرواية من خلال حديثها مع دحمان، تقول:” من فضلك يا دحمان، لا تمكث طويلا في شقتي…فلقد تركت حياة الفساد…أنتظر الآن أن يبعث الله إلي رجلا يقبل بامرأة مثلي زوجة له، فأعيش معه عيشة الحلال”.

كانت وحيدة تجسد الأمان بالنسبة لدحمان الذي صار مدمنا على الخمر، فبزواج وحيدة من أحد زبائنها ضاع ضياعا نهائيا” كيف العمل،؟ ما معنى الحياة بدونها؟ كيف يصبر على هذا العذاب؟ انتهى إذن كل شيء، تركته تركا ليس بعده لقاء”، فبزواج وحيدة صار درب دحمان مجهول، لأنها رغم عملها في البغاء، كانت أحن من أمه وتحسن معاملته أكثر من زوجته، فهو لم يعر أهمية لعملها ذاك بقدر ما أعار أهمية لطيبة روحها، فالبغاء بالنسبة لدحمان ليس مقياسا للحكم على المرأة بسوء الخلق أو حسنه.

5- آفــة الذكــورة والأنوثــة

وقد برزت هذه الظاهرة كثيرا في الرواية وخاصة في تفضيل إنجاب الذكر على الأنثى، فالمجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات الأخرى بفضل المرأة التي تنجب الذكر على المرأة التي تنجب الأنثى.

وهي ”بنية ثقافية أنتجتها التحيزات الذكورية السائد في الثقافة…حتى يتسم المذكر بالايجابية والمغامرة والعقلانية والإبداع، بينما تتصف الأنثى بالسلبية والرضوخ والارتباك والتردد والعاطفية وإتباع العرف والتقاليد”.

فقد جسد الروائي معاناة المرأة في المجتمع، وخاصة المرأة التي لا تنجب ذكرا فهي معرضة إما للتطليق أو مشاركة زوجها مع امرأة أخرى.

وجسد هذه المعاناة في الرواية شخصية أم فاطمة والتي ” كانت كثيرة البكاء، سريعة الانفعال، لأنها لم تنجب لزوجها ذكرا من الذكور”، فالمرأة هنا ”تتسم بالهامشية والدونية” فهي ” ستظل أسيرة العذاب الدائم لعدم إمكانها إدخال الفرح إلى قلبه لأن الله لم يشأ أن يرزقها ولدا من الأولاد”.

فالمرأة التي تنجب الذكر تحتل مكانة رفيعة في المجتمع والأسرة وعند الزوج، أما المرأة التي تلد الأنثى فتظل أسيرة العذاب ويظهر ذلك جليا في قول أم فاطمة لها:” أنا وأنت نعذب أباك عذابا كبيرا، فأنا لم أمنح له ذكرا من الذكور وأنت مجرد أنثى لا تشبعين حاجته إلى ابن من الأبناء رغم ما تتوفرين عليه من جمال وذكاء كبيرين”، وفي موضع آخر يقول أب فاطمة لأمها:” يخلق بك أن تحسبي نفسك امرأة محظوظة لأنك لم تلدي لي ولو ولدا واحدا ومع ذلك لم أقدم على تطليقك أو حتى الزواج عليك”، فهذه الشواهد تبرز لنا الفصل الحاد بين الذكر والأنثى والذي ” أرسى منظومة مفاهيمية عازلة تجعل الأنثى تلعب الدور الذي اصطنعه لها الرجل لا تحيد عنه وتقدم له من التبرير ما وضعه الرجل نفسه من تبرير”.

بقلم: بشرى خبيزي ،جامعة مولود معمري، تيزي وزو – الجزائر

 

حقوق الصورة البارزة