صلة بن أشيم .. الناصح 

تكشف سير التابعين عن مدرسة قائمة بذاتها في الاتباع والأخلاق، وتثبيت الأقدام على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. مدرسة بذل أفرادها وسعهم لملاءمة النص مع سياق اجتماعي دبت إليه عوامل الترف والركون إلى الحياة الدنيا، كما شهد فضاؤه السياسي تقلبات وأحداثا بالغة الأثر.

كان صلة بن أشيم العدوي أحد التابعين الذين سعوا للتأثير في المجتمع، والتصدي لتجليات ارتخاء قبضة القيم الحميدة. واشتهر رحمه الله بين الناس بالزهد والورع، والإقبال على الطاعات. تصف زوجته معاذة أحواله قائلة: “كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا. ولم يكن يفتر عن العبادة في الحل والترحال”.

لكن صلة لم يكن من الزهاد الذين آثروا العيش في الظل بعيدا عن معترك الحياة وهموم المجتمع، بل أكد حضوره غير ما مرّة في مضمار التوجيه الاجتماعي، والتصدي لاختلالات القيم التي باتت تلوح في الأفق بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وانفتح المسلمون على سلوكيات وعوائد، وظواهر اجتماعية متعددة.

كان صلة يخرج إلى البرية خارج البصرة للخلوة والتعبد، فكان شباب البصرة يمرون به وهم في حال من اللهو والترف، وتزجية العمر فيما يسمى اليوم بأوقات الفراغ. فكان يخاطبهم برفق قائلا:

– ما تقولون في قوم أزمعوا سفرا لأمر عظيم؛ غير أنهم كانوا في النهار يحيدون عن الطريق ليلهوا ويلعبوا، وفي الليل يبيتون ليستريحوا، فمتى ترونهم ينجزون رحلتهم ويبلغون غايتهم؟

وحدث مرة أن شابا نهض وسط رفاقه قائلا: والله ما يعني بذلك أحدا غيرنا؛ فنحن بالنهار نلهو وبالليل ننام. ثم أعرض عن رفاقه ولزم صلة بن أشيم حتى فرقهما هاذم اللذات.

وكان يوما يسير مع بعض أصحابه، فمرّ بهم شاب يرتدي إزارا طويلا يجرّه على الأرض كما يفعل أهل الكبر و الخيلاء، فهَمّ أصحابه بالشاب ليزجروه ويُعنفوه فقال صلة بن أشيم :

– دعوني أكفكم أمره!

ثم أقبل على الشاب برفق وعطف قائلا:

– يا ابن أخي إن لي إليك حاجة.

رد الغلام: وما هي يا عمّ؟

قال صلة: أن ترفع إزارك، فإن ذلك أنقى لثوبك، وأتقى لربك، وأدنى لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

أجاب الغلام خجلا: نعم، ونعمة عين. ثم بادر لرفع إزاره.

فتوجه صلة لأصحابه مُذكرا بنهج الحكمة والموعظة الحسنة: إن هذا أمثل مما أردتم، ولو أنكم ضاربتموه وشاتمتموه، لضارَبكم وشاتَمكم، وأبقى إزاره مسدلا يمسح به الأرض !

تزوج صلة من ابنة عم له زاهدة وعابدة تدعى “معاذة العدوية”، ومن طريف ما ورد في خبرهما أنهما لما اجتمعا في ليلة العرس، قام صلة يصلي الركعتين اللتين حث النبي صلى الله عليه وسلم على أن يستفتح المسلم حياته الزوجية بهما. فقامت معاذة تصلي خلفه، وجذبهما سحر الصلاة فمضى يصليان حتى طلع الفجر!

ويواصل أبو الصهباء سيرته في النصح والحث على الخير، وغرس قيم البذل ونكران الذات في سبيل الله، ويحرص على أن يكون قدوة لمن خلفه، وأن يعمل بما يدعو الناس إليه، فيدفع بابنه إلى الشهادة في إحدى أبلغ مواقف التضحية . ففي سنة ست وسبعين للهجرة خرج صلة بن أشيم صحبة ابن له مع جيوش المسلمين المتوجهة إلى بلاد ما وراء النهر- وهي أرض تركستان التي تحتلها روسيا اليوم!-  فلما اشتد القتال وحميت المعركة قال صلة لابنه:

– أي بني، تقدم وجاهد أعداء الله حتى أحتسبك عند الذي لا تضيع عنده الودائع.

فانطلق الفتى يقاتل بكل ما أوتي من عزم حتى خرَّ شهيدا. فما كان من الأب إلا أن مضى على إثر الابن مقاتلا حتى ثوى إلى جانبه.

لما بلغ النعي مدينة البصرة، خرجت النساء ليواسين “معاذة” فقالت :

– إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحبا بكن، أما إذا كنتن قد جئتن لغير ذلك؛ فارجعن جُزيتن خيرا!

إن بيت صلة بن أشيم من البيوت التي يجدر بتاريخ الإنسانية أن ينحني لها إجلالا وتقديرا، وأن تتوارثها الأجيال كمرآة ناصعة لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في علاقته بربه وبمجتمعه.