عروة بن الزبير  .. خَدِين القرآن !

قصة عروة بن الزبير هي تجلّ آخر من تجليات الأثر الفريد، الذي يعكسه لزوم القرآن تلاوة وتدبرا، والحرص على استحضار الخطاب القرآني في مواقف الحياة وشدائدها.

فالأمر ليس عكوفا على تلاوة القرآن فحسب، وإنما تحصيل الثقة التامة بالمعاني والتوجيهات الربانية التي تسدد حركة القارئ، وتُطابق بين النص والخطوات حتى يبلغ المرء مرتبة الخُلق القرآني الذي وصفت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سلوك النبي صلى الله عليه وسلم.

نهل عروة بن الزبير من معين النبوة حين ولد في بيت من أرفع بيوت الإسلام مقاما، فأبوه الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر وجده أبو بكر الصديق خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما خالته فهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي نزل إلى قبرها حين دفنت وسوى عليها اللحد بيديه.

انقطع عروة لطلب العلم، واغتنم من كان من الصحابة على قيد الحياة، فتتبع مجالسهم وأخذ عنهم الكثير، حتى صار أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يلجأ إليهم الناس في أمور دينهم، ويستعين بهم الولاة  في تدبير شؤون الرعية.

عرف عنه إقباله على التلاوة حتى قيل أنه كان يقرأ ربع القرآن من المصحف، ويقوم به الليل تلاوة عن ظهر قلب، فكان يجد في القرآن والصلاة راحة وقرة عين، ويعاتب من يخففون في أدائها لتعلقهم بمشاغل الدنيا. رُوي عنه أنه رأى رجلا يخفف في صلاته، فلما فرغ منها دعاه عروة وقال: يا ابن أخي، أما كانت لك عند ربك حاجة؟ والله إني لأسأل الله تبارك وتعالى كل شيء في صلاتي حتى الملح!

اشتهر عروة بن الزبير بالجود والسخاء، وانتهج في ذلك أسلوبا فريدا حيث كان له بستان من أعظم بساتين المدينة، وكان يحرص طوال العام على أن يحمي أشجاره من أذى الماشية والصبيان، فيعمل على تمتين أسواره وحراسته، حتى إذا طابت الثمار وأينعت هدم حائط بستانه حتى يُجيز للناس دخوله، وحمل ما طاب لهم من الثمار.

يعاين المسلم ألوان البلاء التي تمتحن صبره وصدقه وإخلاصه، فيُبتلى في أعز ما لديه. والصالحون هم أشد الناس بلاء بعد الأنبياء كي تحظى الإنسانية بدروس التضحية التي تعينها على الثبات وتشد من عزائمها. وشاء الله أن يُبتلى عروة ليظهر مفعول القرآن الذي لازمه عروة طوال حياته، وتقف الإنسانية أمام مشهد بالغ الأثر لرجل تُبتر قدمه ولسنه يلهج بذكر الله !

تلقى عروة بن الزبير دعوة من الخليفة الوليد بن عبد الملك لزيارة دمشق، فلبى عروة الدعوة وصحب معه أكبر أبنائه. وفي دمشق أكرم الخليفة وفادته، ورحب به أعظم ترحيب. وحدث أن ابن عروة دخل اسطبلا فيه جياد الخليفة، فرفسته دابة رفسة قاضية أودت بحياته.

لم يكد عروة ينفض يديه من دفن ولده حتى تعرضت إحدى قدميه لداء “الآكلة”. وانتشر الداء بسرعة غريبة، فاستدعى الخليفة أطباءه لمعالجة ضيفه بأية وسيلة، لكنهم أجمعوا على أن الحل في بتر الساق قبل أن ينتشر الورم في الجسد كله.

لما حضر الجراح لبتر الساق طلب من عروة أن يتناول جرعة من شراب مسكر كي لا يشعر بآلام البتر القاسية، فقال عروة : هيهات.. لا أستعين بحرام على ما أرجوه من العافية.

أمام إصرار عروة لم يجد الجراح وسيلة سوى المناداة على طائفة من الرجال ليمسكوه حتى لا يجذب قدمه أثناء البتر فيلحق بنفسه ضررا أشد، لكن عروة رفض مجددا قائلا: لا حاجة لي بهم، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك بالذكر والتسبيح!

شرع الجراح في قطع اللحم بمبضعه، فلما بلغ العظم ووضع عليه المنشار كان عروة يردد في خضوع تام: لا إله إلا الله و الله أكبر. وواصل التهليل و التكبير حتى بُترت الساق تماما.

حين وُضعت ساقه في زيت مغلي لوقف تدفق الدماء أغمي عليه إغماءة طويلة، فكانت المرة الوحيدة التي فاته خلالها ورده من القرآن الكريم تلاوة وقياما !

رجع عروة إلى أهله في المدينة، فلما دخل عليهم بادرهم بالقول الذي يُطمئن النفوس ويوازن بين المحنة والمنحة: لا يَهُولَنَّكم  ما ترون، فلقد وهبني الله عز وجل أربعة من البنين، ثم أخذ منهم واحدا فله الحمد. وأعطاني أربعة أطراف ثم أخذ منهم واحدا فله الحمد. لئن أخذ الله مني قليلا فلقد أبقى لي كثيرا، ولئن ابتلاني مرة فلطالما عافاني مرات.

ضرب عروة بن الزبير رحمه الله مثالا حيا للمسافة بين قارئ القرآن وحامله.. وبين التلاوة والمعايشة التي يخالط فيها القرآن لحم المؤمن ودمه. تلك المسافة التي لا محيد عن قطعها لمن كان يرجو الله واليوم الآخر!

عامر التميمي

زاهد أُعطي اثنتين ومُنع الثالثة!

عامر التميميينطوي الزهد على سعي لإحداث التوازن بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد، بل وتغليب الروح للجم ما تسببه الشهوات من ضغط على القيم و المبادئ. لكن في ظروف الرخاء المادي، وانتقال الحكم الإسلامي إلى طور الإمبراطورية التي انتهت إليها  كنوز الروم وفارس، فإن الزهد أصبح تحديا قاسيا، واستثناء صارما أمام دواعي الإقبال على زينة الحياة الدنيا.

إلى زمرة التحدي هاته ينتسب التابعي الجليل عامر التميمي بن عبد الله ، الذي هاجر من نجد إلى مدينة البصرة، ليكون على ثغر من ثغور المسلمين مطلع العشرية الثانية للهجرة، بعد أن صدر القرار من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لتكونَ البصرة معسكرَ جيوش الإسلام الموغلة في أرض فارس.

عامر التميمي في البصرة

فور دخوله البصرة لزم عامر التميمي واليَها أبا موسى الاشعري رضي الله عنه، فأخذ عنه القرآن غضا طريا كما أنزل على فؤاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتفقه على يديه ثم أقبل على الخلوة والعبادة حتى دُعي بين الناس بعابد البصرة وزاهدها. غير أن التميمي لم يكن من صنف الزهاد الذين يعتزلون المجتمع وهمومه. بل أثبت غير ما مرة حسّ المسؤولية الملقاة على عاتق كل مسلم، في الصدع بالحق والنهي عن المنكر؛ الأمر الذي جرّ عليه أذى الناس، وسعيهم لدى الخليفة لتدبير المكيدة له.

عاشت البصرة مشهدا دافع فيه عامر التميمي عن العدل كدعامة للحكم الرشيد، أمام ظلم لاحت بوادره زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فبعض رجال السلطة نقلوا أدوارهم داخل المجتمع الإسلامي من الإدارة و التدبير إلى التسلط، وهو ما لم يقبله التميمي، وتصدى له في واضحة النهار دون أن يخشى في الحق لومة لائم.

أمسك أعوان صاحب الشرطة برجل من أهل الذمة لينظف حديقة سيدهم رغما عنه، فكان الذمي يصيح ويستغيث بينما الأعوان ممسكون بخناقه، فتدخل عامر لإنقاذ الرجل بعد أن تبين له أنه مكره على هذا العمل، و لا يطيقه لكونه من أعمال السخرة التي لا تليق بمواطن يؤدي واجبه نحو الدولة كاملا. وتجمع الناس ليعينوا التميمي على رفع الظلم، فاتهمه صاحب الشرطة بنبذ الطاعة، ورفع أمره إلى الخليفة عثمان .

 كانت قائمة الاتهام تتضمن الخروج على السنة والجماعة، والعزوف عن الزواج، والترفع عن حضور مجالس الولاة، والإعراض عن أكل اللحم و الجبن.

في مجلس الخليفة فنّد عامر التميمي التهم الموجهة إليه مستدلا بالكتاب والسنة ، غير أن نيران الشر لم تنطفئ، فأمره الخليفة بالانتقال إلى بلاد الشام، والإقامة فيها تحت سمع وبصر واليها معاوية بن أبي سفيان.

نال التميمي ما يليق به من إجلال وتكريم، واختار بيت المقدس داراً لمقامه حتى توفاه الله ولسانه رطب بذكره سبحانه.

حاجات عامر التميمي الثلاث

في حياة التميمي مشاهد ومواقف تكشف حرصه على الزهد الذي توجه  النفس من خلاله كل طاقاتها للعبادة، وتتخفف من أحمال الدنيا وأعباء الشهوات. ومن طريف ما يروى في هذا الباب أنه صحب إحدى القوافل في سفره، فلما أقبل الليل خلا بنفسه في رابية ملتفة الشجر، ثم استقبل القبلة وقام يصلي، غير أن رجلا من أهل البصرة لحقه لينظر ما يصنع فكان شاهدا على ما يطمح إليه التميمي في ركعاته ودعائه، ومناجاته لربه والناس نيام!

مضى التميمي في صلاته حتى تنفس الصبح، ثم أقبل يدعو قائلا:” اللهم ها قد أصبح الصبح  وطفق الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإن لكل منهم حاجة، وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له..

اللهم فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين..

اللهم إني سألتك ثلاثا؛ فأعطيتني اثنتين و منعتني واحدة. اللهم إني أسألك فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد..”

لما علم التميمي أن الرجل يلاحقه ويرقبه التمس منه أن يستر ما رآه وسمعه، لكنه أبى إلا أن يعلم ما هي الثلاث التي حدث بها عامر ربه أو يخبر الناس بما رأى. فلما رأى التميمي إصراره قال: لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة لقيت أم جدارا.

والثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحدا غيره، فاستجاب لي حتى أني والله ما أرهب شيئا في الأرض ولا في السماء سواه.

قال الرجل: والثالثة؟

قال التميمي : سألت ربي أن يُذهب عني النوم حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد، فمنعني هذه. ثم أردف: والله لاجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النار فبتقصيري!

التصميت

يفيد الصيام لغة الإمساك عن الأكل والشرب، وعن الكلام أيضا. فما حكاية صوم الكلام أو ما يُعرف بالتصميت أو الصُمات؟

ساد في فترة ما قبل الإسلام نوعان من الصوم؛ صوم أهل الكتاب عن الأكل والشرب، والصوم عن الكلام لدى الرهبان، ويتمثل في السكوت، والجلوس في الخلوات للتأمل في ملكوت الخالق سبحانه. ويظهر من الأخبار أن أهل الجاهلية تعرفوا على النوعين معا من خلال احتكاكهم بالنصارى و اليهود في شبه الجزيرة العربية، ومنهم من سلك مسلكهم هذا، فكان يمتنع عن الكلام، وينزوي في شعاب الأودية ليالي وأياما معدودة.

في قصة مريم عليها السلام يرد شاهد بأن الصوم عن الكلام أو التصميت كان معروفا لدى الأمم السابقة. ففي سورة مريم، الآية 26، نقرأ قوله تعالى:” فكلي واشربي وقري عينا. فإما تَرَينَّ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا“.

التصميت عند مريم بنت عمران

وصوم مريم عن الكلام مطابق لما في شريعة قومها قبل بعثة المسيح عليه السلام، إذ كان اليهود في صومهم يحرم عليهم الطعام والكلام بل حتى الاستحمام، وارتبط الصوم في الغالب بالمصائب و الكوارث التي ألمت بهم، فكان مرادهم منه إذلالَ للنفس طلبا للتوبة،. واستمر هذا التشريع حتى في المسيحية، خاصة لدى الكاثوليك الذين يُلزمون به رجال الدين في ظروف مخصوصة، ويجعلونه مستحبا لغيرهم.

التصميت في استراليا

لكن الطريف في الأمر أن هذا النوع من الصيام وُجد لدى قبائل في أستراليا، حيث ذكر كل من سبنسر وجيلان في كتابهما عن سكان أستراليا الوسطى أن المرأة التي يتوفى زوجها تظل صائمة عن الكلام لمدة طويلة قد تبلغ سنة كاملة. وتلتزم طائفة (الترابيست) الكاثوليكية بالصوم عن الكلام التزاما شديدا، وتفرض على أتباعها اعتزال العالم في خلوات، والإقامة فيها صامتين حتى الموت.

وفي الديانة الجاينية، إحدى ديانات الهند القديمة، يشير الكتاب المقدس “أوبافاسا” إلى ضرورة الامتناع عن ملذات الحواس الخمس، والكف عن الأكل و الكلام و الرؤية واللمس، ليبلغ الفرد حالة التركيز والانغماس العميق التي تُمكنه من السيطرة على النفس وتوجيهها.

غير أن الإسلام، في نسخه للشرائع السابقة، حرم صوم الكلام وأبطل ما كان يفعله بعض عرب الجاهلية من امتناع عن الكلام حتى مغيب الشمس؛ لأن في ذلك تعطيلا للذكر والتسبيح وتلاوة القرآن. وقد ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه :” لا يُتم بعد احتلام، ولا صُمات يوم إلى الليل” رواه أبو داود وصححه الألباني.

يروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة اسمها زينب، فلما رآها لا تتكلم سأل عن ذلك فقالوا: حجت مُصمتة، فقال لها أبو بكر: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت.

التصميت منهي عنه

نهى الإسلام عن صوم الكلام لكنه في المقابل أثنى على فضيلة الصمت وقَرَنها بحُسن الخلق، وضمت المكتبة الإسلامية مئات المباحث التي استعرضت فوائد الصمت، وما يتضمنه من خصال الخير. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ترك الإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي مبحثا غنيا اختصر فيه كتاب “الصمت” لابن أبي الدنيا، وسماه ( حُسن السَّمت في الصمت)، وعرض من خلاله طائفة من الأحاديث وأقوال العلماء والصالحين التي تثني على الصمت لكونه فضيلة أخف على الأبدان وأثقل في الميزان!