فتنة التجريب ومتاهة السرد

في رواية حائط المبكى لـ: عز الدين جلاوجي

بقلم الأستاذة: بشرة خبيزي

جامعة مولود معمري-تيزي وزو- الجزائر

توطئة

شهد الخطاب الروائي الجزائري منذ نشأته عدة تحولات على الصعيد اللغوي والفكري وحتى الجمالي، إضافة إلى مواقف وآراء الكتاب الجزائريين وثقافتهم المتنوعة المشارب، وقد أدى كل هذا إلى إثراء الكتابة الروائية وانفتاحها على وعي جديد وأدوات ممارسة مختلفة.

ويعد التجريب إحدى السبل التي انتهجها الكتاب كوسيلة إبداعية تسهم في تخييب أفق انتظار القارئ وكسر جميع توقعاته فيما يخص بنية الرواية ودلالاتها، فالتجريب يغير من أشكاله وأنماطه باستمرار ويأخذ الإبداع نحو اللامتوقع، من خلال تنقله بين مختلف الأجناس الأدبية، والأشكال والفنون التعبيرية فاسحا المجال للقارئ للإطلاع على عالم مختلف ومتجدد، ينصهر فيه الثقافي مع الأصيل والمعاصر ضمن وعي فني رافض للمألوف والعادي.

والروائي في بحثه الدائم عن التجديد، يرغمه إبداعه وحب التميز والتفرد على التجريب والمجازفة والمغامرة في أغوار الأنساق السردية، من أجل خلق شكل فني جديد فطبيعة الرواية المنفتحة استطاعت ضم عدة أشكال فنية، وأجناس أدبية مختلفة.

أشكال التجريب التي استعان بها الروائي 

سنحاول من خلال رواية حائط المبكى أن نكشف عن أشكال التجريب التي استعان بها الروائي من أجل خلق وجه جديد لرواية أكثر تفردا، منطلقين من إشكالية مفادها:

  • كيف ارتحل التجريب من الحداثة إلى مابعد الحداثة؟.
  • وكيف تجلى في رواية حائط المبكى؟.
  • وماهي آليات اشتغاله في هذا الخطاب الروائي؟.

1.هجرة التجريب من الحداثة إلى مابعد الحداثة

اشتق مصطلح التجريب من الفعل “جرّب”، ويجرب تجربة وتجريبا: الشيء حاوله واختبره مرة بعد مرة[1]، ويتقاطع هذا التعريف مع ما ورد في المعاجم الغربية، فكلمة تجريب Expérimentoi، تدل على التجربة والخبرة ومدى الإفادة منهما[2].

استخدم التجريب في مجالات الفن والأدب وعدّ ظاهرة أدبية تتجاوز العادي والتقليدي في محاولة لتجديده والبحث عن البديل بواسطة التغيير، ويعد البحث صفة ملازمة للتجريب،” فبدون بحث لا يوجد تجريب”[3]، فكان التجريب من أجل التجديد والتغيير المسلك الذي اتبعه معظم الكتاب الباحثين عن المغايرة والتفرد، وهذا ما أكده الناقد مارتن إسلن Martin Esslin، بأن المرء حينما يريد العثور على شيء جديد عليه أن يجرب[4].

والتجريب في الكتابة هو وليد الحداثة، يسعى إلى تجاوز قواعد الكتابة الجاهزة ونبذ السائد والتقليدي لخلق نموذج منفرد، غير أن ماهية التجريب لم تخضع لقواعد الحداثة التي تتجاوز السائد وتغيره نحو نموذج جديد، بل كان التجريب في معظم عوالم استخدامه يجر الروائيين نحو الهوس ووهم اللامألوف، فيوقعهم هذا في مادعت إليه ما بعد الحداثة Postmodernism، وهو العبث وتقويض الأجناس والأشكال الأدبية.

يتقاطع التجريب ويتماس مع ما بعد الحداثة في عدة نقاط، تتجلى إحداها في تحديد ماهية التجريب وماهية مابعد الحداثة، فكلاهما يرفضان التعريف، وكل محاولة لتعريفهما هي مغامرة في ذاتها لأنهما يقفان ضد التكريس وضد قواعد الكتابة الجاهزة، وكلاهما يدعوان إلى تفجير اللغة وتكسير قيودها والثورة على الجمود وكل ماهو ثابت، والنزوع نحو المجازفة للبحث عن اللامعقول.

ارتحل التجريب إلى مابعد الحداثة، لأنها لا تخضع في بنيتها لنظام مسبق يحكمها ولا حتى لمنطق خارجي، وإنما تستمد نظامها من داخلها” بوصفها وعيا بالوجود داخل طريقة للتفكير، وهو الاعتراف بأن هذا الوعي ينكر على الذات الطمأنينة”[5].

يشبه هذا المنطق طريقة عمل التجريب في الخطاب، فهو وعي بالكتابة، يكتسب معناه من خلال اشتغاله على الدوال، فاتحا المعنى على المتعدد،” ومن صور التجريب، تكسير نمطية السرد القديمة تعدد الخطابات وتداخلها، خلخلة البناء التسلسلي للأحداث، اعتماد أسلوب التعجيب، التعددية اللسانية”[6]،وهذا ما احتفت به ما بعد الحداثة، وهو” تشكيل مستمر لا يمكن تبريره أو تفسيره بالإحالة على أنموذج متعال وإنما يقبل التفسير فقط من داخله محكوما بأشكال مادته الخاصة وليس نتيجة ثوابت لا تتحول أو تتبدل”[7]، أما التجريب، فيقوم على هدم ونقض المسلمات الجامدة والتقاليد الثابتة والأعراف الخانقة وصياغة السؤال الذي يولد السؤال وممارسة حرية الإبداع في أصفى حالاتها”[8].

يدل هذا على مدى تشابه كل من ماهية التجريب وما بعد الحداثة، غير أن التجريب يصعب تفسيره وفهمه واستيعابه والحكم عليه، ”لأنه يرتبط بالمبدع في كيفية تمثله للتجريب وفي تطبيقه إياه”[9]، أما مابعد الحداثة ، فهي” مظلة تتشظى داخل نفسها لتكون ذاتها، فتتعدد وتنقسم ‘إلى مابعد حداثات مختلفة مجموعها العام يشكل مابعد الحداثة العامة”[10].

كما يصعب تحديد مساحة نشاط كل من التجريب وما بعد الحداثة، فكلاهما ينتقلان في كافة الفضاءات والمجالات، من سياسة، ثقافة، اقتصاد، فن، أدب….وغيرها من مجالات الحياة، فهما يعملان على كسر قيود التقليد قصد الانفتاح والتغيير.

يمكن القول: إن طبيعة التجريب الزئبقية والمتحولة ساعدت على هجرته من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهي رحلة ناجمة عن مجمل التحولات التي شهدها الأدب والنقد في العقود الحديثة والمعاصرة فكانت ما بعد الحداثة الملجأ الذي استقبل معظم المصطلحات والنظريات التي هاجرت من الحداثة.

2.جمالية وسحر الكلمات

غدت الرواية الجنس الأدبي الأكثر رحابة وانفتاحا على الأنواع الأدبية، فهي في كل مرة تقوم بخلخلة نموذجها السابق من كل الجوانب، وقد ساعدها في ذلك طبيعتها المرنة والمنفتحة على الأشكال التعبيرية المختلفة، فهي الحقل الذي يمتزج فيه اللغوي بغير اللغوي، كالشعر والقصة والمسرح من جهة والرسم والأخبار والصور من جهة أخرى.

انعكس هذا الامتزاج على بنية الرواية وعناصرها وتقنياتها الفنية، إضافة إلى تنوع موضوعاتها ففي كل مرة يلونها الروائي بألوان فكرية وثقافية واجتماعية مغايرة مما يجعلها الجنس الأدبي المتجدد والمنفتح والمستقبل لكل أنواع التعبير المتنوعة بطرق ووسائل تختلف في كل مرة عن سابقاتها.

وفي ظل التحولات التي يشهدها النص الروائي الدائمة، أصبح من العسير تحليل هذا الأثر الأدبي دون التساؤل عن عناصر تشكل أنساقه السردية وخصائص الأسلوب واللغة، بحيث يتم الاشتغال على اللغة” لا كأداة إبلاغ فحسب، وإنما كفضاء إبداع يسهم في شعرنة الخطاب وتكثيف دلالاته الفكرية وأبعاده الجمالية”[11].

يتمظهر التجريب في رواية حائط المبكى من خلال اللغة الشعرية، القائمة على العدول والانزياح تارة، والغموض والإضمار تارة أخرى، وكأن الروائي يعمد إلى استعمال لغة راقية بأساليب مختلفة، حتى يعبر من خلالها على أحوال النفس البشرية المتقلبة، من خلال اللعب باللغة، فيجعلها أحيانا لغة بارزة جريئة تتكشف أمام القارئ، وأحيانا أخرى يجعلها لغة مضمرة ترغم قارئها على تفكيك بنيتها والبحث في سرادق مدلولاتها المحتشمة.

ارتفع الروائي بلغته إلى مراتب عالية، تخلو من التهجين والتعدد اللغوي، ولكنه عمد إلى إدخال صفة الشاعرية على اللغة، خاصة عندما يكون بصدد وصف محبوبته والتي أطلق عليها اسم سمرائي ومن أمثلة ذلك قوله:” سمرتها النضرة، عيناها السوداوان الواسعتان، وقد تغشاهما ذبول، حاجباها المعقوفان كخطاف أعياه التجديف في الفضاء البعيد، أهدابها الأشبه بجناحي فراشة سوداء نادرة، شعرها الحالك الذي عصمته بخيط أبيض طويل، ابتسامتها البريئة التي ظلت توزعها على كل من يحييها أو حتى يمر قريبا منها، شفتاها اللتان كانت تداعب بهما فنجان القهوة الساخن، ملابسها الخريفية الأنيقة”[12].

إن اهتمام الروائي عز الدين جلاوجي بالجانب الشعري للغة حولها من وسيلة لإبلاغ وأداة للتواصل يخترق الكائن من تجلياتها ليفجر الكامن من طاقاتها[13]، وقد حاول تفجير مكامن وعواطف البطل من خلال شعرنة اللغة التي يعبر بها عن مدى إعجابه وحبه لسمرائي، فاللغة الشعرية تكسر رتابة التعبير العادي وتتجاوزه من” الإبداع والتصوير إلى الخلق، إنها تبدع واقعها وتخلق عالمها وتحقق بالتالي شعريتها”[14].

قام الروائي بإثراء اللغة الشعرية في الرواية من خلال” نزوعه إلى استخدام العتيق من الألفاظ والمتقادم من الصيغ والتراكيب”[15]، ويظهر ذلك جليا للقارئ من خلال ذكره للغة الشعر، وأهل الأندلس والحجاز، يقول:” سأقرأ شعر المجنون وابن زيدون بصوت مرتفع حتى يسمعني أهل الحجاز والأندلس”[16].

يتجلى التجريب هنا من خلال محاولة الروائي المزج بين لغة الشعر الأندلسي مع اللغة السردية فلغة الرواية لم” تعد علامة ممتلئة تكتفي بنسخ الواقع المتوهم، بل غدت جزءا من مغامرة الكتابة وعنصر بحث عن محتمل الرواية وممكناتها المتعددة”[17].

استطاعت اللغة أن تنقل توتر وقلق الشخصية واضطرابها من خلال عدولها وانزياحها، مما جعلها بمثابة مرآة تعكس الحالة النفسية التي يعاني منها البطل، مثل قوله:” يكفي ما عانيت من تيه وتشرد وضياع، يكفي ما مارسته من هروب إلى الأراضي البور من حياتي”[18]، فالقلق واضح من خلال قوله:”ماالذي أعاد إلي هذه الذكريات المؤلمة، التي كلما حاولت ردمها في أعماق أعماقي إلا وأصرت على الظهور من جديد، كأنما تقع الآن أمامي طازجة؟[19].

من خلال ما سبق، تظهر لنا علاقة اللغة بالروائي، وذلك بتحويل علامات شذوذ اللغة عن معايير الفصاحة إلى بلاغة تجلت في اهتمام الرواية بالإبطان أكثر من الإبانة وتفصيح الخطاب”[20]، لأن روح البطل ونفسيته شيء مضمر وخفي، لذا فهمه والتعبير عن كمنوناته جعلت الروائي يعمد لتشفير اللغة وإضمارها خاصة فيما يتعلق بعشقه وحبه لسمرائي من جهة وجنونه وتفكيره في قتلها من جهة أخرى ” حين انحدرت عيناي إلى جيدها تلامعت بين عيني مئات الصور لرقاب منحورة، هل تصلح هذه الفاتنة للحب أم للذبح؟ أفكار شيطانية راودتني، تغلبت عليها سريعا”[21].

فاللغة التي يتميز بها الروائي عز الدين جلاوجي ساعدت على رسم الشخصيات ماديا وروحيا  بلغة شاعرية راقية أحيانا، ومضمرة مشفرة أحيانا أخرى،” فامتزجت بذلك اللغة السردية باللغة الشعرية في تشكيل الخطاب الروائي عكس لنا عمق ومعاناة الذات”[22] البطلة واغترابها عن واقعها المعيش الذي أحبط الكثير من طموحاتها وزاد من هوسها وأوهامها، ” اشتد صراخي وأنا أغسل يديّ من الدم للمرة الألف دون جدوى، لم يكن أمامي هذه المرة إلا رأس السمراء، ملقى على الطاولة والدم يتفجر من أوردة الرقبة، وقد ارتسمت على ملامحها ابتسامة عريضة، لم تكن غير ابتسامة ساخرة مما أنا فيه، وأفقت من نومي مرعوبا، رحت أتأمل حوالي، كل شيء كان عاديا”[23].

وعليه، تصبح لغة عز الدين جلاوجي لغة سردية مشعرنة تستوعب الواقع وتنزلق منه، لتخلق عالما منفردا تتداول الكلمات على صناعته وتنميقه، وهذا ما يعكس لنا منطق التجريب اللغوي عنده.

3.استثمار فن الرسم

اشتغل الروائي في خطابه الإبداعي حائط المبكى على توظيف فن الرسم، فقد غدى” من أكثر الفنون استلهاما في الرواية العربية الجديدة، بسبب تقاطعه مع الرواية في خاصيتي المكانية والتصوير”[24].

أعطى عز الدين جلاوجي الأولوية لفن الرسم في روايته حائط المبكى، من خلال جعله لبطل الرواية رساما، وقد تطلب هذا إلماما من قبل الروائي بعالم الرسم والتشكيل العربي والغربي، وذلك بتضمين معلومات خاصة بهذا الفن والدراية بلغة الألوان وانسجامها ودلالاتها، بالإضافة إلى ذكر أشهر الرسامين العالميين والمدارس التي ينتمون إليها، فنجد الروائي على لسان البطل يتحدث عن خصائص لوحات بيكاسو picasso ، عمر راسم، سلفادور دالي  Salvador Dali، تريستان تزاراTristan Tzara  أندري ماسونAndré Masson ، أوليفر دينيت غروفرOliver Dennett Grover، مارسيل جانكو Marcel Janko، بول كوكان Poul Couguin، ماري كاسيت Mary Cassatt …وغيرهم ممن يجسدون دعائم وركائز عالم الرسم من خلال تفرد وتميز لوحاتهم الفنية ويتماهى الروائي مع بطله الرسام وينصهرا لينسجا معا صورة لفنان تشكيلي، نعاني معه هواجسه وتوتره وقلقه وحبه في تشكيل لوحاته  بمرسمه حيث يمارس جنونه الفني حتى أصبح الرسم حائط مبكاه، يقول:  ” دوما كنت أتغلب على صعاب الحياة ومآسيها أصب في اللوحة كل آلامي وآمالي، كل أحلامي وانكساراتي”[25]، فالرسم والتشكيل بالنسبة إليه ” أحاسيس ومشاعر وروح ترفعك إلى أعلى، تغوص بك إلى الأعماق، تكشف لك كل مجاهيل الحياة”[26].

وإذا بحثنا عن ماهية الرسم، نجده يعد من بين أشكال التعبير غير لغوية، هو لغة إشارية، ولفهم مدلول اللوحة يجب فك رموزها المتمثلة في الأشكال، الألوان، الظل، الضوء…وغيرها من التقنيات، لأن الرسم تعبير بالأشكال والصور عكس الكلمات، فاللوحة الفنية تخلق أنساقا دلالية تحمل أبعادا ومدلولات فنية، تكشف لنا عن إحساس الرسام وتفتح المعنى على المتعدد، ” كان الرسم خلاصي الأوحد في هذه الحياة..تحلق روحي في السماوات العلى، أهرب به من كآبة الحياة ولا جدواها، أذيب به جليد الإحباط والانكسار”[27].

لم يكتف الروائي بالتحدث عن الرسم وأعلامه فقط، وإنما عمد إلى توظيف  لوحات فنية مشهورة في عالم الرسم بمتنه، كانت هذه اللوحات تترجم أحاسيس البطل وتتحد مع الكلمات في وصف الحالة النفسية وإضفاء صفة الجمالية على صيغة الحكي والوصف.

يظهر التجريب جليا هنا، من خلال قيام الروائي بتسريد اللوحات ووضعها في المتن، فاتحا المجال أمام القارئ من أجل قراءة اللوحة وفق منظوره الخاص، وكأنما الروائي يغري المتلقي لاقتحام عالم الرسم ومحاولة فهمه، فالروائي  يقدم قراءته الخاصة للوحة ثم يفتح باب القراءة للمتلقي حتى يجرب هو الآخر قراءة لوحة فنية، وتجريب  فك رموز الأشكال وألغاز الألوان.

تتخذ اللوحات الفنية مراكزا مختلفة في المتن الحكائي، فهي تختلف وتتمركز باختلاف أحاسيس ومشاعر الرسام، فنجد مثلا لوحة لعمر راسم” حرص فيها على إظهار أدق التفاصيل، فجمع  بين منظر عمراني لمسجد العاصمة الكبير، وأمامه سوق تعج بالحركة وقد انخرط فيها الناس على اختلافهم حتى أطفالهم ونسائهم وفي الخلف يترامى البحر، رهوا وقد عج بالسفن، ورغم الدقة التي حرص عمر راسم على إظهارها في لوحته، إلا أن ألوانه كانت قاتمة حزينة، زرقاء وبنية وسوداء مع سحاب مركوم فوق البحر ولا إضاءة إلا ما انعكس من نور الشمس مودع على قباب ومنارات بيضاء”[28].

تحيلنا اللوحة على الحياة و الهوية الجزائرية، والثقافة العربية وحب الانتماء الحضاري، فهي من بين اللوحات التي أرخت للجزائر في عصرها الذهبي، كما تترجم لنا أصالة فن المنمنمات الإسلامي واختلافنا وتميزنا عن العالم الغربي من خلال اللباس التقليدي الجزائري، فقد عكست هذه اللوحة ماضي الجزائر الجميل، وهذا ما تحس به سمرائي عند عودتها إلى وهران مسقط رأسها، حيث تحس بالانتماء وهذا ما عكسته لوحة عمر راسم.

وتتقاطع لوحة أخرى مع الأنساق السردية لتحكي عن رحلة البطل إلى المغرب ومصادفته للوحة رسمها الفنان عبد الله الأطرش، والتي تستحضر عوالم الإنسان الأولى وانفعالاته، فهي تترجم شعور الإنسان المختلف والمتناقض من ألم ولذة، تعاسة وسعادة، خير وشر، ليقوم الرسام في الأخير بمقارنتها مع لوحة لبيكاسو Picasso ” الجرونيكا Guenica” والتي تجسد ” همجية الإنسان ضد أخيه الإنسان المنددة بالحروب وسفك الدماء، كانت لوحة بيكاسو استثناء في عالم الفن، والفن التكعيبي على الوجه الخصوص، رماد في الألوان،و مأساة في ملامح الحيوان والبشر”[29].

هي لوحة تتحدث عن الحرب الأهلية التي حدثت في اسبانيا عام 1937، بين الجمهوريين والوطنيين، والغرض من وضع هذه اللوحة يتجلى واضحا في موقف الرسام، بأننا وقعنا أسرى لواقع زائف وكاذب توهمناه فعبدناه.

ويتغير مسار الرواية مع وجود لوحة فتاة من الشرق للفنان العالمي أوليفر دينيت غروفر،” وهي تغرق نرجسيتها في صفحة نحاسية اتخذتها مرآة لها”[30].

وهنا يمكن أن نقرأ اللوحة بالموازاة مع أحداث الرواية من زاويتين.

الأولى: أن الفتاة الموجودة في اللوحة تتماهى مع شخصية سمرائي، ويظهر هذا واضحا في قول الرسام:” رأيتها أحلى من فتاة أوليفر دينيت الحالمة، تقوس أشد في الحاجبين، وامتداد في الرقبة وحور بين العينين، وامتداد عجيب في الذقن وثنية مدهشة في أسفل الوجنتين ، وأسنان ضاحكة راقصة، ثم روح شباب تسري في كل مكان، تفيض من كل جارحة”[31].

أما الزاوية الثانية: فهي تعكس نظرة المستعمر الأجنبي للحضارة العربية” وقد تبرجت عن سحر الشرق بكل مافيه من تحف فنية، أقواس وأعمدة مرمرية، أباريق نحاسية، زراب وفساتين وحلي ساحرة، وجمال أنثوي مدهش”[32] فكل التفاصيل الموجودة في اللوحة تسرد لنا مدى انبهار الغرب بسحر الشرق بكل مافيه، فما الدقة في رسم الأثاث والأواني إلا إعجابا بعادات العرب وتقاليدهم، فبقدر انبهاره وسعيه ”لاكتشاف الجميل عندنا والتعريف به كان إحدى أدوات الاستعمار حين نظر بعينيه ورسم بأدواته”[33].

استطاعت اللوحة الأخيرة الدادية أن تكشف لنا عن مدى تمرد البطل في رسم والده من خلال العبث بملامحه وتفجير تفاصيل وجهه، يقول:” حلمت ليلا أنني عثرت على لوحة سريالية بديعة، بها صورة والدي، مدججا بالنياشين يزين رقبته عقد يقطر دما وكانت رجله ملتصقة بأعلى كتفه، يرتفع فخذه إلى الأعلى، وتنثني ساقه فوق رأسه، لتتدلى قدمه على كتفه الأخرى، تبدي ملامحه تقززا شديدا، لعلها من رائحة حذائه العسكري…استيقظت كأن لم أنم، لم أكن مرعوبا، ولا متعبا، بل كنت بالغ السعادة بهذا الوحي الجميل، سريعا عمدت إلى عدتي أنقل اللوحة بكل تفاصيلها كما شاهدتها… تمردت على الوحي بوحي آخر من تريستان تزارTristan Tzara، فربطت أنف والدي بقدمه بواسطة سلك مفتول شائك، التقطته من الحديقة، ثم لففته حول أعلى رأسه كخوذة بائسة، فكانت اللوحة سريالية دادية بامتياز”[34].

شكل والد البطل هاجسا له، فكان يرسمه باستمرار ويعبث بملامحه، وكثيرا ما يستحضر تفاصيل وجه والده في لوحاته، فكان الرسم وسيلة لقهر صورة الوالد الجندي الصارم الذي لا يصدر الأوامر إلا لتنفذ من قبله هو ووالدته، فمدرسة السريالية برفضها لمنطق العقل، ساعدت الرسام على تفجير مشاعره اتجاه والده التي يغلفها بالكراهية والخوف والاحتقار والرفض،” فالعمل الفني ليس مجرد شيء حسي، إنه روح تتجلى من خلال وسط حسي، الفن روح”[35].

خاتمة

  • يظهر التجريب جليا في الرواية من خلال تمرد الروائي على التقاليد الفنية المتعارف عليها، من خلال تجسيده لعالم سحري لا عقلي.
  • احتفت رواية حائط المبكى بلغة شعرية راقية، بعيدة عن التعدد اللغوي والتهجين.
  • أظهر عز الدين جلاوجي وعيا آخر في العمل الروائي من خلال معرفته بتفاصيل عالم الفن التشكيلي بطريقة كتابة مختلفة.
  • يعد استثمار فن الرسم شكلا من أشكال التجريب في الرواية الجزائرية.
  • وضع الروائي لوحة سريالية دادية تجسد الفوضى والشكل المفتوح وهذا مااهتمت به مابعد الحداثة.
  • تتجلى مظاهر مابعد الحداثة في الرواية من خلال كسر هذا الجنس الأدبي للحواجز وامتزاجه مع أساليب جديدة للتعبير عن علاقة الإنسان.

الهوامش:

[1] -أبو الفضل جمال الدين بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، ط1، دار صادر، بيروت، لبنان، 1990، ص261.

[2]-voir : Oxford Advance dlearnersdictionary of English : a- Shorn by: Seventherditon: Oxford Universitypress:2006: p 513

[3] -هناء عبد الفتاح، أصول التجريب في المسرح المعاصر: النظرية والتطبيق، مجلة فصول، مج: 14، ع:1، 1995، ص347.

[4] – مارتن إسلن، عن: ليلى بن عائشة: التجريب في مسرح السيد حافظ، ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، مصر، 2005. ص46.

[5] -براندا مارشال، تعليم ما بعد الحداثة: المتخيل والنظرية، تر: السيد إمام، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص13.

[6] – برنار فاليط، النص الروائي: تقنيات ومناهج، تر: رشيد بن حدو، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، ص69.

[7] -مجان الرويلي، سعد البازغي، دليل الناقد الأدبي، ط4، المركز الثقافي العربي، دار البيضاء، المغرب، 2005، ص226.

[8] – هناء عبد الفتاح، أصول التجرييب في المسرح المعاصر: النظرية والتطبيق، ص06.

[9] -منار عبد الوهاب، التجريب في القصة السورية: 1970-2000، رسالة ماجستير، إشراف الدكتور: فؤاد المرعي، كلية الآداب، جامعة حلب، سوريا، 2004، ص08.

[10] -ميجان الرويلي، سعد البازغي، دليل الناقد الأدبي، ص223.

[11] -بوشوشة بن جمعة، التجريب وإرتحالات السرد الروائي المغاربي، ط01، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار، تونس، 2003، ص104.

[12] – جلاوجي عز الدين، حائط المبكى، ط2، دار المنتهى للنشر، الجزائر، 2016، ص07.

[13] – ينظر: بوشوشة بن جمعة، ارتحالات السرد الروائي المغاربي، ص97.

[14] -جمال بوطيب، السردي والشعري في مخلوقات الأشواق الطائرة لإدوارد الخراط، عمان، الأردن، ع79، 2002، ص75.

[15] -بوشوشة بن جمعة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، ص97.

[16] -الرواية، ص09.

[17] – أحمد فرشوخ، جماليات النص الروائي: مقارنة تحليلية لعبة النسيان، ط1، دار الأمل للنشر والتوزيع، الرباط، المغرب، 1996، ص 93.

[18] – الرواية، ص 28.

[19] _الرواية، ص31.

[20] – بوشوشة بن جمعة، ارتحالات  السرد الروائي المغاربي، ص 72.

[21] – الرواية، ص07.

[22] -بوشوشة بن جمعة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، ص80.

[23] – الرواية، ص14.

[24] -شكر حسن، الرواية العربية والفنون السمعية البصرية: مظاهر التفاعل، المجلة العربية، الرياض، المملكة العربية، 1431، ص108.

[25] -الرواية، ص24.

[26] -الرواية، ص15.

[27] – الرواية، ص37.

[28] – الرواية، ص88.

[29] -الرواية، ص62.

[30] – الرواية، ص108.

[31] -الرواية، ص109.

[32] – الرواية، ص108.

[33] _الرواية، ص109.

[34] -الرواية، ص34.

[35] – الرواية، ص35.

 

حقوق الصورة البارزة

اترك تعليقاً

  1. عزالدين جلاوجي 2 سبتمبر، 2018 at 7:46 م - Reply

    شكرا لجميل الاهتمام من الأستاذة الباحثة بشرة خبيزي ومن الموقع استكتب الذي نرجو له دوام التألق والازدهار
    الدكتور عزالدين جلاوجي

  2. نجاة 2 سبتمبر، 2018 at 9:21 م - Reply

    فعلا من يقرأ حائط المبكى يشعر بفتنة السرد والق التجريب الذي أعطى النص زخما جماليا وفنيا يجذب القاريء لأول وهلة ومن السطر الأول..ما أجملها من رواية كلما تقرأها تشعر أنك قرأتها للمرة الأولى…كما أن التجريب الذي ينتهجه الأديب الكبير عزالدين جلاوجي أعطى لنصوصه السردية مرونة وحرية وقدرة على التطور والانفتاح على كل الدلالات، وجعل لغتها متجددة على الدوام..هذا الأديب الكبير يستحق منا كل تقدير واحترام وقد جدد الأدب ومنحه حيوية وعدد أصواته السردية ومنحها جمالا فنيا ولغويا قل مثيله في عالم الأدب.فللأديب الدكتور عزالدين جلاوجي كل التقدير والإحترام.

    الأديبة: نجاة مزهود الجزائر

مقالات مشابهة