تخلص من أوهامك

قراءة في كتاب فن اللامبالاة !

يتحدث الكتاب عن افكار مبتكرة في مجال تطوير الذات واهمية فن اللامبلاة في تحقيق السعادة والوصول اللى اهدافنا في الحياة.

قد لا يكون من المبالغة القول بأن كتاب ” فن اللامبالاة ” لمؤلفه مارك مانسون، يستحق أن يكون دليلا عمليا لتخطي الحلول الزائفة، والمقترحات سريعة التحضير التي يروج لها دعاة ومدربو التنمية الذاتية. فرغم بعض عباراته السوقية، وتهكماته الجارحة، إلا أنه يجتهد في تبصيرنا بأهمية القلق والمعاناة كجزء من الطبيعة الإنسانية، ويُحتم على القارئ أن يعيد النظر في مفاهيم من قبيل السعادة، والطموح، والإيجابية ليعيد النظر في أسلوب تعاطيه مع الوجود والناس من حوله.

يجري اليوم تركيز شديد وغير واقعي على الآمال الإيجابية التي يسعى الناس لتحقيقها من قبيل: كن الأفضل، وكن الأذكى، وكن الأكثر سعادة ..إلخ، غير أن هذا الاهتمام المتزايد لا يؤدي سوى لتذكيرنا بما لسنا عليه حقيقة، فالسعيد لا يحتاج للوقوف المتكرر أمام المرآة لأنه بالفعل سعيد!

وما يحدث في نهاية المطاف أننا نجد أنفسنا أسرى لحلقة جحيمية تخدم مصالح الشركات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتوهمنا أن حياتنا بائسة لأننا لم نفز مثل فلان بمليوني دولار مقابل تطبيق يتيح التزود بورق المراحيض، أو لم نتلق سيارة فيراري في عيد ميلادنا مثل فلانة!

إن السعي خلف المزيد من التجارب الإيجابية هو تجربة سلبية في حدّ ذاتها، ويعكس أزمتنا الوجودية لكوننا جاهلين بالشيء الذي يستحق أن نمنحه اهتمامنا. وحتى يتخذ كل شيء موقعه الصحيح فلا بديل إذن عن الحدّ من الاهتمام به، واعتماد اللامبالاة أسلوباً لإعادة النظر في الأولويات، وترتيب الأفكار بناء على قيم شخصية موضوعة بدقة.

ولا يخلو الحديث عن السعادة بدوره من مبالغات نتوهم على إثرها أن الأمر أشبه بمعادلة رياضية يمكن حلها. في حين أن القلق والرضا جُزءان أصيلان من الطبيعة الإنسانية، ولهما دور أكيد في خلق سعادة مستقرة. فالمعاناة، كما يقول مارك، من الناحية البيولوجية هي الأسلوب المفضل لدى الطبيعة لحثك على التغيير، وبذل جهد في سبيل التجديد. دَعْكَ من المخارج السريعة والإحساس الزائف الذي يحقنك به المرشدون ومساعدو التطوير الذاتي، فالسعادة لا يمكن أن تأتي إلا من حل المشكلات، لأنها نشاط يتولد عن الألم النفسي وليست شيئا نكتشفه بطرق سحرية !

هناك قدر من التضحية ملازم لكل شيء في حياتنا، والخروج من حلقة المتعة المفرغة التي تضيع فيها الحياة هباء أمرٌ رهين بقدرتك على تحديد الألم الذي يمكنك تحمله، لأن في النهاية لا يمكنك أن تحظى بحياة بغير ألم .

من المشاكل التي نواجهها كذلك في الحياة، حرصنا الزائد أحيانا على تقدير الذات، والمبالغة في تأكيد مكانتنا ودورنا المصيري في حدوث الأشياء وجلب الأفكار النافعة والعبقرية. والسبب وراء ذلك هو قلة الشعور بالأمان، والميل المفرط للتميّز مما يغذّي دورة الإحساس العالي المغلقة لتتحول لاحقا إلى فقاعة نرجسية تشوّه كل شيء من حولنا.

من غير الصائب القول أن الناس جميعا أصحاب أداء فائق في مجالات الحياة كلها، أو حتى في قسط كبير منها، لأن هذا دليل على عدم الاعتراف بالمشاكل، وبالتالي تعطيل الرغبة في التطوير والنظر إلى الجوانب السلبية بشكل إيجابي. وبما أن الواقع لابد أن ينتقم لنفسه فإن الإفراط في تقدير الذات يهيئ لآلام قاسية تفجرها المشاكل والنقائص الكامنة، لتُعَبِّر عن نفسها دون مُواربة.

لقد ساعد انتشار تكنولوجيا الاتصال والتسويق الجماهيري على تدمير نظرة الناس لأنفسهم، بأن جعلهم يشعرون دوما بالحاجة الشديدة لأن يكون مميزين واستثنائيين، لكن.. إذا كان كل شخص استثنائيا فما قيمة الاستثناء إذن؟

وبما أن المعاناة أمر لا مفرّ منه، يظلّ السؤال القائم: لماذا أعاني ولأية غاية ؟ يقول مارك: ” إدراك الذات يشبه البصلة. إن له طبقات كثيرة؛ وكلما قشرت هذه الطبقات واحدة بعد الأخرى، كلما كان من المحتمل أن تذرف الدموع في أوقات غير مناسبة.” معنى ذلك أن على المرء أن يُجيد الكيفية التي يُفكر فيها بالمشكلات، ويختار المعايير المناسبة لقياسها.

هناك للأسف قيم شائعة تنتج عنها أسوأ المشكلات عندما يصنفها الناس ضمن أولوياتهم. فالمتعة على سبيل المثال شيء جميل، إلا أن التركيز عليها كقيمة أساسية في الحياة يجعل هذه الأخيرة أكثر قلقا، وأقل استقرارا من الناحية الانفعالية. نفس الشيء يحدث عند تبني النجاح المادي أو الصوابية المفرطة، بل حتى الإيجابية الدائمة التي تنقلب لاحقا إلى تهرب من مواجهة المشكلات.

إن القيم الجيدة هي تلك المؤسسة على الواقع، والبناءة اجتماعيا، والقابلة للضبط الآني.

وفيما يتعلق بالمشكلات فإنك تشعر عادة بالتعاسة والضيق حين تكون مفروضة عليك، أما حين تختارها بملء إرادتك فينبغي أن تكون مدعاة للشعور بالطاقة والتمكين. إن قبول المسؤولية على أخطائنا محطة مهمة في اتجاه حلها، وهو ما يجعلنا أكثر أهمية من الظهور بمظهر المسؤول عن النجاح أو السعادة. صحيح أن الألم أمر صعب لكن طريقة وقوعه تظل من اختيارنا، وكل ما يزعجنا أو يخيفنا لا يغير من حقيقة أننا مسؤولون عن وضعنا بحال من الأحوال.

تحفزك المشاكل والمعاناة على أن تنتقي معاركك بانتباه، وأن يكون لديك شيء من التفهم للخصم والمخالف في الرأي، وأن تتعاطى مع الأنباء والنشرات الإعلامية بقدر من التشكك لأنك تضع الصدق والشفافية في مكانة متقدمة. أتَرى كيف أن المشاكل تضفي على حياتك معنى !

جزء آخر من معاناتنا مرتبط بحرصنا على أن نكون دائما على صواب. إن النمو الإنساني في حد ذاته عملية ترابطية ننتقل خلالها ليس من خطأ إلى صواب، وإنما من خطأ إلى خطأ أقل بمقدار طفيف. وبعض الناس يحرمهم هاجس الصواب من أن يعيشوا حياتهم بشكل أفضل لأنهم يثقون ثقة عمياء بأدمغتهم وقراراتهم.

صحيح أن الدماغ يزودنا بالارتباطات التي تساعد على فهم المحيط والتحكم به، لكن المشكلة أن أدمغتنا ليست دائما على صواب، فنحن نخطئ في فهم أشياء نراها ونسمعها، ونصبح بالتالي منحازين للفهم الذي صنعته عقولنا. ينبغي إذن التقليل من الثقة بالنفس، ووضع آرائنا وأحكامنا موضع التساؤل، وتجريب الفرص المتاحة لتغيير نظرتنا تجاه أنفسنا.

إنك لست خاصا أو فريدا، لذا أعِد تحديد مقاييسك باعتبارك إنسانا عاديا منتميا لهذا العالم. وبالتأكيد ستكتشف أن المواجهة التي تخوضها ضد العالم ليست في أحيانا كثيرة سوى مواجهة لنفسك فقط !

ومن المهم كذلك أن تقول “لا”، وأن تمارس حقك بالرفض. علينا أن نمارس الرفض كمهارة حاسمة من مهارات الحياة لأن في غيابه نصبح بدون معنى. ومن المؤسف حقا أن ثقافة الاستهلاك السائدة تعزز ميلنا لأن نقول لكل شيء “نعم”، وأن تصبح المجاملات والعلاقات الزائفة والكذب نمطا شائعا في المجتمعات، لكن الصدق في دائرة المعاملات الإنسانية أهم من أن تكون المشاعر طيبة طيلة الوقت. نحن نعيش في زمن فقدت فيه الثقة قيمتها، يقول مارك، وصارت المظاهر والقدرة على الترويج الكاذب أكثر طرق التعبير فائدة. صارت المعرفة السطحية بعدد كبير من الناس أهم من معرفة عدد محدود منهم معرفة وثيقة. لذا فإن استعادة الثقة رهينة بالحق في الرفض والنزاع. وحدهما اختلاف الرأي وقول “لا”  يتيحان لك معرفة من هم معك دائما، ومن يتوددون فقط لأجل مكاسب محددة.

ينضاف إلى لائحة القيم السلبية رعب الموت، وإحساسنا الدائم بضآلة وجودنا الإنساني، مما يدفعنا إلى تجنب الحديث عن الموت أو التفكير فيه. لكن الحقيقة هي أن الخوف من خسارة الجسد يُحفزنا لإنشاء نفس مُتخَيَّلَة، قادرة على العيش للأبد. هذا هو سر قيام الحضارات والمنشآت العظيمة، واهتمام الناس بتأليف الكتب، وتخليد أسمائهم على المباني والتماثيل.

يقول مارك: ” الموت يخيفنا. ولأنه يخيفنا فإننا نتجنب التفكير فيه والحديث عنه، بل نتجنب حتى الإقرار به أحيانا.. حتى عندما يصيب شخصا قريبا منا. لكن الموت، بطريقة غريبة، هو الضوء الذي يقاس به ظل معنى الحياة كله. ولولا وجود الموت لبدا لنا كل شيء معدوم الأهمية، و لصارت القيم والمقاييس كلها صفرا “.

غذّى مارك مانسون دليله هذا بعشرات القصص والمحطات من سيرته التي يراها غير جديرة بالأهمية، لكنها تكشف للقارئ أن جلّ أفكاره راودتنا يوما، بعد أن انتابنا الشك أمام الإيجابية المفرطة، والسعادة المقولبة التي تعادل الوهم، والتي يصرّ الآلاف من دعاة التطوير الذاتي على حقننا بها لتخدير جزء من طبيعتنا الإنسانية، أعني القلق والألم والمعاناة، والإحساس بالفناء الذي يزيل عنا كل ما في حياتنا من قيم سطحية وتافهة!

يمكنك الاستماع لتلخيص الكتاب من خلال رابط حلقة سلسلة مطالعة استكتب الخاصة بكتاب فن اللامبالاة .