كيف تصنع محتوى ؟

الكتابة أشبه ببناء معماري، فهي بحاجة إلى تصور عام قبل مباشرة عملية البناء، وقد يتطلّب الأمر أحيانا نقض الأساس أو هدم ما بنيت لتعود من جديد إلى حجر الأساس.

ولكلّ كاتب عالمه الخاص الذي يستمدّ أحجاره من الواقع اليومي ومشاهداته، ثم يضيف إليها قِطعا من خياله ورؤاه الفنية، ليقدّم إلينا في الأخير تجربة من الحياة الإنسانية تحمل في طيّاتها مقوّمات الخلود!

كيف تصنع محتوى ؟ رافق الكتاب

هي أول خطوة في هذا العالم، وذلك لأن مرافقة الكتّاب أمر حيوي لكلّ راغب في امتهان صنعة الكاتب، لأن في التنوّع الذي يميّز طقوس كتابتهم يمكن للمرء أن يلتقط توجيهات وخطوات تذلل له الصعوبات، وتُحرره من الرؤى الضبابية التي تكتنف عادة كل مشوار للكتابة في بدايته.

إن الكتابة، كما يرى الأديب السوريّ الراحل حنا مينة، لا بدّ لها من تجارب حياتية بالغة الاتساع والعمق، وفهم البيئة والناس وكل الوجود المحيط بهم.

وكلما افتقر الكاتب إلى تجربة الحياة الواسعة إلا وشعر بالعجز عن إعطاء شيء جيد كل مرة، ليقع بالتالي في فخ التكرار ثم الانطفاء.

إن تحرّي الخبرات الإنسانية في جميع الأمكنة والأزمنة يتيح للمرء أن يواصل الكتابة حتى لو كان المجتمع من حوله يتحرك بالمقلوب.

قبل أن تحصل الروائية الألمانية من أصل روماني هيرتا موللر على جائزة نوبل سنة 2009، كانت قد تعرضت قبل ذلك للمطاردة من طرف نظام تشاوتشيسكو المستبدّ، وصودر كتابها الأول. “لم أواصل الكتابة لدواعي قوة ما – تقول موللر– لكنّي اكتشفت أنّها منحتني صيغة للتماسك الداخلي، ويمكنها أن تدعم وعيي بذاتي. ربما عدم امتلاكي للقوة دفعني لكي أكتب. آمنت لحظتها بأن الكتابة مفتاح يحق لنا التشبث به، حتى لو أدركت أن وقائع الحياة ستبقى على حالها”.

وإلى جانب السعي خلف التجربة وتحري الخبرات ينبغي أن يجيد الكاتب الاصطفاف إلى جانب المبادئ والمثل الجمالية والإنسانية التي تمنح كتاباته الدفء والصدق اللازمين.

لقد أمضى الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل خمس سنوات من حياته في سلك الشرطة الامبريالية الهندية ببورما، فمنحته وظيفته فهما أعمق لطبيعة الامبريالية، ثم جاء هتلر والحرب الإسبانية الأهلية فعرف جيدا أين يقف، واتجه للكتابة ضد الشمولية ومن أجل الديموقراطية.

“عندما أجلس لكتابة كتاب – يقول أورويل –  لا أقول لنفسي سوف أنتج عملا فنيا، أكتبه لأن هناك كذبة أريد أن أفضحها، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، وهَمّي الأول هو الحصول على مستمعين، لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة كتابة كتاب، أو حتى مقالة طويلة لمجلة لو لم تكن أيضا تجربة جمالية”.

من الخطوات الهامة في بداية طريق إتقان مهارات الكتابة هي التوظيف الجيد للخبرات والمشاهد اليومية، والإنصات للواقع حتى تمس الكتابة وجدان القارئ وتصوّر آماله وهمومه وتساؤلاته. لكن ذلك لا يعني الاكتفاء بنقل الأحداث أو التقاطها بشكل مجرد كما تفعل آلة التصوير، بل يتطلب الأمر إضفاء مسحة جمالية، والإلمام بقواعد التعبير الفني.

وهذا كله ما تتيحه مرافقة الكُتاب، حيث تمكن الكاتب المبتدئ من تحسس خطاهم وهم يمزجون الخبرات والمواقف الإنسانية بعناصر البناء الفني واللغوي التي تحرر كتاباتهم من الفجاجة، وتضمن لها بعثا متجددا كلما امتدت لها يد القارئ !

 كيف تصبح كاتبا رديئا ؟

كيف تصنع محتوى كيف تصبح كاتبا رديئا

يقول الروائي البيروني ماريو بارغاس يوسا: “في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب فإنه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا “.

حين يقرر المرء أن يكتب فإنه يفعل ذلك لنفسه أولا. يكتب ليختبر ذاته وبصيرته وحكمه على الأحياء و الأشياء من حوله.

يكتب لأن هناك تداعيا مؤلما يتلاطم بين حناياه كالموج الهادر. ويكتب أيضا ليُمتع ويؤثر ويؤرق، ويلقي حجرا في بركة الروتين اليومي عله يُحدث دوائر حول الدوائر، فيهز الخط المستقيم الذي ملت الأقدام من المشي عليه!

لكن حين يكتب وعينه على المسابقات والأضواء الخاطفة. أو يكتب بيمينه بينما يسراه تحصي المعجبين كل ليلة في مواقع التواصل الاجتماعي.

حين يشعر بالخيبة أمام نقد واضح يقوم مساره، أو قراءة جادة تحدد هفواته، آنذاك يشير بوضوح إلى هويته ككاتب رديء.

لقد أصبحت كلمة السوق هي العليا فتسابق الهواة لاحتلال المواقع الأمامية، وفعل أي شيء للاستمرار في المقدمة. لكن في مجال الكتابة لا يمكنك أن تحطم كل المعايير، فهناك دائما خط واضح بين الكتابة الجيدة والرديئة.

إن مقياس المبيعات والجوائز والأوسمة لم يعد صدى للكتابة الجيدة، خاصة بعد أن تراجعت آليات النقد والغربلة أمام تهافت الناشرين، وبتنا نعاين للأسف الشديد ظاهرة صناعة الكاتب/النجم ، كما هو الشأن تماما في استوديوهات الطرب وملاعب الكرة.

تحاول العديد من وسائل الإعلام والمنابر الثقافية ملء الفراغ الحاصل في المشهد الأدبي بتسليط الضوء على المواهب الناشئة، في محاولة لإقناع نفسها أولا ثم القارئ بأن الدنيا “لسه بخير”.

لسنا نعترض هنا على التحفيز والتشجيع فهذا أمر جيد، لكن إحاطة الكاتب المبتدئ بهالة أضخم من حضوره وعطائه، وإضفاء بُعد فلكلوري على مشاركته في حدث ثقافي فهذا أمر يعزز الفراغ ولا ينفيه، لأن جوقة الطبالين لا تناسب الكاتب حين تنقله من خضم الكتابة إلى أريحية المهرج في حفل راقص!

يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عن شاب في الثالثة والعشرين من العمر، جاء إلى بيته بمدينة مكسيكو، وكان قد نشر روايته الأولى قبل ستة أشهر، ويشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلى ناشره؛ يقول ماركيز، أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فردّ علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره على أنه استهتار لا إرادي: “أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة لأن قلة من الناس يقرؤونني. إن ذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا ، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة !”.

إن الكتابة حقل شائك يتعزز فيه حضور الكاتب بمقدار ما يبذله من عناء وسعي جاد لتتبع الخيط الإنساني الرفيع، وسط عالم مليء بالصراع و الضجيج. والكاتب الجيد لا يصغي للهتاف بقدر ما يُنصت لنبض الواقع اليومي، ثم يحاول مواده إلى عالم متخيّل وشديد الحيوية.

يؤمن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأن الإنسان حين يبدأ بالاحتجاج يصبح أكثر جمالا. يمكننا قول الشيء ذاته عن الكتابة، فالإنسان حين يكتب يصبح أكثر إنسانية ووضوحا لأن الكتابة الجيدة أشبه بلعبة المرايا التي تتأرجح خلالها صورتنا بين التقعر والاحديداب، ثم تقودنا في نهاية المطاف إلى التصالح مع الذات، والاعتراف باستحالة المضي أبعد مما خطته المشيئة!

  ثلاث قواعد احرص على استلهامها من مرافقة الكُتاب

  • كيف يوظفون التجربة الحياتية اليومية.
  • ثم كيف يمزجونها بالمتطلبات الفنية للكتابة
  • وأخيرا، طبيعة المبادئ والقيم التي يصطفون إلى جانبها ويدافعون عنها، مادامت الكتابة هي أرقى تعبير عن التطلع الإنساني لعالم أفضل.

 

اترك تعليقاً

  1. حمدى مختار 21 يناير، 2023 at 5:37 م - Reply

    فى رأي المتواضع. أن القراءة بما توفره من مخزون ثقافى تراكمى؛ هى التى تصنع الكاتب وتحدد رتبته، فى مُصنف الجودة الإبداعية، وكلما كانت قراءاته حرة ومفتوحة على الفضاء المعرفى؛ كلما ازدادت حظوظه فى إمتلاك الموهبة الفطرية، ولا يبقى عليه بعد ذلك إلا أن يتعهدها بالصقل والتشذيب .. أما عن ظاهرة الكاتب المصنوع التى أشرت إليها. فلو اكتفى صانعوه بتلميعه فقط لهان الأمر، فهم غالبًا ما يسعون فى المقابل. إلى طمس المواهب الفعالة؛ لإخلاء الساحة لدُميتهم المصنوعة.

مقالات مشابهة