لا تُسرع في القراءة!

من سلسلة كيف تنتقي كتاباً من المكتبة

القراءة السريعة؛ خيمياء جديدة تَعدُك ب”عصْر” الكتب، واستخلاص رحيقها في ظرف قياسي.

تفتح الكتاب فلا يكون همُّك سوى الالتفات إلى عدّاد السّرعة، كي تحصي عدد الكلمات التي تمضغها في الدقيقة حتى يندرج اسمك ضمن قوائم أسرع القراء في العالم!

قد يناسب الأمر فعل القراءة كمهمة شبه مستحيلة، يتبارى خلالها القرّاء بإثبات كفاءة العين في تنقلِها الضوئي على الصفحات، وإضفاء بُعدٍ صاروخيّ على الكائن اللطيف الذي يُزيّن المكتبات، لكنه لا يُناسب فعل القراءة كمتعة وانفتاح إنسانيّ على عوالم  متخيلة، وانشغالات وهموم وقضايا متحررة من الزمان و المكان.

يشير توني بوزان في الصفحات الأولى من كتابه “القراءة السريعة” إلى أن هذه التقنية، وهي على أية حال دعابة تناسب موضة القراءة الحالية، بدأت مع التدريبات التي أجراها سلاح الجو الملكي لتطوير سرعة إدراك الطيارين، حتى يتمكنوا من تمييز طائرات العدو على مسافة طويلة خلال وقت قياسي يبلغ جزءا من خمسمائة جزء من الثانية.

لا تسرع في القراءة

 

أسلوب الومضة الخاطفة هذا أوحى إلى المهتمين بتطوير القدرات البشرية باعتماد نفس المنظور الحسابي في قراءة الكتب، مادامت العين هي الأداة في كلتا الحالتين، وبالتالي يمكن أن تبلغ سرعة القراءة، في حال التدرّب بشكل متواصل وجادّ إلى ثلاثين ألف كلمة، أي ما يعادل كُتيباً صغيرا في الدقيقة!

قدرة العين على تصوير مساحات أكبر من المعتاد هو شيء جيد، غير أننا أمام الكتاب لا نكون في حالة حرب. والمرء حين يقرّر تصفّح كتاب لا يفعل ذلك بمنطق التحدّي وإنّما المتعة وتحقيق إشباع فني أو معرفي، وتغذية الوجدان واستكمال وجوده الخاص بالمعاني والأخيلة التي تحقق له الرضى و الانتشاء.

يقول بوزان: “عندما تتحرك العين وتتوقف فإن المعلومات يتم التقاطها فقط خلال التوقف، وهذه الوقفات تستغرق معظم الوقت، وكل وقفة تأخذ ما بين ربع ثانية إلى ثانية ونصف؛ لذا فمن الممكن تحقيق تحسّن فوريّ في سرعة قراءتك إذا تمكنت من تقليل وقت كل وقفة”.

بمعنى أثناء تصفحك لرواية جميلة أو بحث علمي أو فكري فإن ما سيشغلك بالأساس ليس الأحداث والأفكار وإنّما قدرة عينيك على أن تُنهيا سباق التصوير الفوتوغرافي بسلام!

يعتمد بوزان على الكفاءة القرائية لبعض المشاهير كي يضفي على أطروحته سمة العلمية والفاعلية، ويحشد أية معلومة أو استنتاج لتعزيز مقترحه، حتى وإن تطلّب الأمر عدم تحرّي الدقة العلمية. وهنا بودّنا صراحة أن نُسائل هذا الكم من المبالغات التي يعتمدها بوزان في إحداث معجزة قرائية، بالرهان على كتاب وعدّاد سرعة أو جرس منبه. وهل تحتفظ القراءة حقا بسِمتها الإنسانية حين تتحول إلى حلبة صراع مع الزمن؟

ثورة معلومات لكن لا تسرع بالقراءة

صحيح أننا نواجه ثورة هائلة للمعلومات باتت تفرض منهجيات متطورة لتحقيق الاستيعاب في ظرف زمني مناسب، لكن ليس بالهالة التي يتحدث عنها بوزان، فقد تبدو بعض التوجيهات والنصائح ملائمة لطلاب المرحلة الثانوية والجامعية الغربية، ممن تُلزمهم المؤسسات التعليمية بإنهاء قوائم كتب معينة لاجتياز الامتحان، لكنها بكل تأكيد تُلحق الضرر بمتعة القراءة الرصينة والهادئة، وتجعل من التأنّي المستلهم لمقاصد الكاتب هدرا للوقت ومضيعة للجهد.

لا أحدَ منّا مُطالَب بإنهاء مائة مليون كتاب تضمّها مكتبة الكونجريس، بل المطلوب فقط أن يُفسح المرء مكانا للقراءة في حياته اليومية، وأن يلمس الفرق بين عالمه المألوف، وعوالم الحروف!

وبما أن العادة جرت أن يتعرّف المرء على الكتاب بتصفحه أولا، لذا سيكون “فن التصفح” محورَ حلقتنا المقبلة.