الروائي والإعلامي عبد الرزاق بوكبة

قرّر ذات يوم رمضاني، أن يختلي بنفسه ليمارس طقوس الكتابة، ويمتح من ذاكرته ما تختزنه من هواجس وأفكار، غير أن بُنيَّاته الثلاث أبين إلا أن يقطعن عليه وحدته ليفرضن براءتهن العفوية بوجودهن ويتلبّسن بأفكار الأب الأديب في كتابه “يدان لبنات ثلاث”. الذي خاض فيه تجربة استثنائية في أدب البيت. وخصّص منه شطرا هو “بوصلة التّيه” سرد فيه كيف أحالته تجاربه الإنسانية في الجزائر العاصمة وغيرها على الكتابة السردية هو الذي بدأ وعرف شاعرا.

 

عبد الرزاق بوكبة، إعلامي وكاتب جزائري. كان منشطا للمقهى الثقافي في اتحاد الكتّاب الجزائريين، ثم للمقهيين الأدبي والفلسفي في المكتبة الوطنية الجزائرية، ثم أعدّ وقدم العديد من البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون الجزائريين، وأشرف على فضاء “صدى الأقلام” في المسرح الوطني الجزائري، ثم في مؤسسة “فنون وثقافة” منذ 2005، بالموازاة مع الكتابة في الصحافة الجزائرية والعربية منذ 2007، فكان مضيئا في هذه المنابر كلها للمواهب والمشاريع والأسئلة الجديرة.

 اختير ضمن أهمّ 40 كاتبا عربيا شابا عام 2010 من طرف مؤسسة هاي فيستفل البريطانية. وترجمت بعض أعماله التي نشرت في الجزائر والدول العربية، ثمّ جمعتها دار “أفق” مؤخّرا في سلسلة ضمت أحد عشر كتابا، إلى الفرنسية والأمازيغية والألمانية والإنجليزية والكردية والفارسية والإسبانية.

استطاع أن يحوّل قريته الصغيرة والمهملة في الشرق الجزائري، “أولاد جحيش”، إلى فضاء مكاني وإنساني لمعظم نصوصه، فباتت من أشهر القرى في أوساط النّخب. وهو بهذا لا ينتصر للقرية على حساب المدينة، بل ينتصر للإنسان على حساب الوحش.

الأستاذ عبد الرزاق بوكبة ضيفنا في برنامجنا الحواري “ لقاء في استكتب “.
  • كالعادة يُلح علينا سؤال البداية. هل كنت تتوقع أن تصير إلى ما أنت عليه؟

خذ أيّ كائن يخطر على بالك. العصفور مثلا. فستجد أن الصورة/ الهيئة/ الوضعية التي هو عليها لحظةَ رؤيتك له، ثمرةً لما قبل وجوده أصلا. فهو ثمرة حتى للّحظة التي عاين فيها أبوه أمَّه فوق الغصن. والحديث قياس على الكاتب. لا أومن بأن الكاتب يختار الكتابة صدفة ثم ينبغ فيها فجأة. بل إن خياره ثم نبوغه ثمرة لسياقات سابقة على ذلك، وقد تشمل حتى طبيعة الموسيقى التي كانت تسمعها أمه وهو في بطنها. فقط علينا الانتباه إلى أن الاختيار تثمره سيقات الحياة/ الطفولة، بينما يكون النبوغ ثمرة للاجتهاد والتّكوين.

لم يتجاوز عمري العاشرة، وأنا أرعى الخراف في القرية، حين كنت أقلّد المذيعين من خلال مذياعي في محاورة ضيوف أستدعيهم في خيالي. حيث أكون أنا المنشّط، وأقلّد الكتّاب مرّات أخرى في الإجابة على أسئلة المذيعين، حيث أكون أنا الضّيف. وحين أصبحت مذيعا في خريف عام 2003 وكاتبا يملك كتابا في السوق في خريف عام 2004، عدت إلى المرعى وقلت لأحلامي: عليك أن تشكريني لأنني لم أخنك يوما.

  • لا شكّ في أنك بذلت، في إطار تكوين الكاتب فيك، مكابدات وخضت مغامرات. هل تذكر منها بعضها.

في القرية قبل عام 1990 كنت أتمرّد على أبي وأحبس نفسي في بيوت وأودية مهجورة مصطحبا معي كتبا أقرأها هناك. وكانت كل عودة لي من خلوتي متبوعة بضرب مبرّح. في الإعدادية ثمّ في الثّانوية ما بين عامي 1990 و1996 حيث كنت منتسبا للنظام الدّاخلي، فكنت أقضي معظم الليل في مرحاض المرقد غارقا في القراءة، لأنه كان ممنوعا علينا ترك المصابيح شغالة. في الجامعة ما بين عامي 1996 و2002 كانت تفوتني مواعيد الاختبارات بسبب القراءة، حتى أنني لم أكمل دراستي الجامعية. في الجزائر العاصمة ما بين 2002 و2017 غرقت في الحلم بنجوم القراءة والكتابة ونسيت أن أنجز سقفا.

  • هل أنت نادم؟

هل سأكون رومانسيا إذا قلت إن ندمي محصور في كوني قتلت كثيرا من الفراشات والضفادع والقطط والكتاكيت والعصافير والخراف والجراء والنمل والدعسوقات  في طفولتي؟ وصاحبت بعض الكتّاب والفنّانين الذي خانوا الملح؟

  • ندم خاص معجون بخيبة خاصّة. كيف وظّفت الكتابة في التطهر من ذلك؟

بممارسة فعل الكتابة نفسه. مجرّد الكتابة كفيل بأن يطهرني. مع الإشارة إلى أن التطهر ليس الهدف الوحيد من فعل الكتابة. فهي تطهر وموقف وإثبات للذات وإعادة لتسمية الأشياء والعناصر وتصحيح لوضعيات الأجداد الخاطئة وحفر وتفكيك وترحيب مسبق بالمستقبل.

  • من هنا. إلى أي جانب ينحاز عبد الرزاق بوكبة حين تصطدم الكتابة الأدبية بجدار القيم وعوائد المجتمع التي تعبر عن هويته وخصوصيته؟

تقيّح حوضي مرة، فأخذني أبي إلى الطبيب الذي أمرني بخلع سروالي. رفضت الأمر وفكّرت في الهرب. لكنه أقنعني بالقول إنه عليّ تفضيل أن يراني هو، فيعطيني الدّواء، على أن يراني الدّود في القبر. من علامات التخلّف لدى مجتمع ما أن يعتبر الإشارة إلى تقيّحات تفكيره وسلوكه خروجا عليه وتسفيها لمنهجه، فيعمد إلى مضايقة أصحاب الإشارة وتشويههم وربما قطع أرزاقهم وأنفاسهم. وهو بذلك يخون نفسه في الوقت الذي يتهمهم فيه بالخيانة. علما أن الصراحة لا تعني الوقاحة. والتغيير لا يعني الهدم. والعفوية لا تعني الابتذال.

 

عبد الرزاق بوكبة

 

  • هل قناعتك هذه ما جعل الجنس يحضر في نصوصك قائما على الإشارة لا الإباحية؟

بل إن ذلك ثمرة لقناعتين أخريين. الأولى أنه ينبغي الاحتكام في توظيف الجنس داخل النص الأدبي إلى طبيعة النصّ نفسه. فنستحضره أو نستبعده انطلاقا من الداعي الجمالي والنفسي والإنساني للمشهد المكتوب. ذلك أن النص الأدبي نسيج يقوم على الوعي بطبيعة النفس البشرية. فيكون استحضار الجنس من غير توفر داعيه، رغبةً من الذات الكاتبة في استفزاز المتلقي أو إثارة آلة المنع لتحقيق الشهرة، واستبعاده مع توفر الداعي بحجّة مراعاة الأخلاق العامّة تسللا سرديا في الحالتين كلتيهما. أما القناعة الثانية فهي أنه على الكاتب ألا يركّز على مضاجعة جسد لجسد آخر، معتبرا منعه من ذلك مصادرة لحرّية الكتابة والقراءة، في مقابل غفلته عن مضاجعة حاكم أو فكر أو حزب أو مذهب أو عادة لشعب كامل.

  • ألا يطرح تعدد الأجناس الأدبية لديك هاجس الإبداع والقيمة المضافة التي تحققها تجربة عبد الرزاق بوكبة للمشهد الأدبي؟

لا شكّ في أنك جرّبت الجوع بينما أنت خارج البيت. فحدث أن أكلت فورا أول وجبة متاحة لك، رغم أنك قادرة من حيث توفر الوقت والمال على أن تأكلي غيرها. أو حدث أن أكلت وجبة خفيفة لأنك لا تستطيعين ماديا ووقتيا أن تأكلي غيرها. أو أكلت وجبة معينة بناء على مزاج أو وصية من الطبيب أو وفاء للحظة سابقة. ليس من العدل أن يراعي الكاتب حالات شخوصه داخل النصّ ويهمل حالته قبل كتابته، فلا يحتكم إليها في تحديد الجنس الذي يستوعبها. أومن بأن الكاتب ليس سياسيا أو إداريا مطالبا بأن يقدّم تقريرا لجهة ما عند نهاية مهمّته.

  • هل هذا ما يفسّر مقولتك :”لا أكتب لأصير نجماً أنا أكتب كي لا أصير حجراً “؟

سأكون كاذبا إذا قلت لك إنني لا أطمح إلى النجومية ولا أستمتع بها. لكنني رَوَّضْتُني، قبل أن أصدر أول كتاب لي ولا أزال وفيّا لذلك، على الاجتهاد من أجل تعميق نصّي أكثر من السّعي إلى إضاءة نفسي. ذلك أن الشهرة التي تحصل من غير الجدارة بها لا تزيد على أن تفضح عيوبي ونقائصي واختلالاتي، تماما كما يحصل للقرد. كلما ارتفع في الشجرة كلما أصبحت عورته أوضح.

  • هل نحن اليوم فعلا أمام موجة كتّاب الشهرة؟

نعيش لحظة استهلاكية بامتياز، في البطون والفنون معا. ومن الطبيعيّ أن تنتج هذه اللحظة كتّابها ومسرحييها وسنيمائييها ورسّاميها وإعلامييها ووسائط تواصلها. غير أنه على الكاتب أن يواجه هذا السؤال ويفصل فيه نهائيا، ثم يتصرف على أساسه: هل أكتب للّحظة القائمة، فأحقق الشهرة الآنية، أم أكتب للزمن في صيرورته الوجودية الممتدّة، فأحقّق الخلود. من هنا، على كلّ طرف أن يحترم خيار الثاني.

  • هل يعني هذا أنك تحترم الكتّاب المستعجلين؟

كنت صغيرا في القرية وكنت أتخذ من العصا حصانا. وها أنا أكبر فأرى بعض الكتّاب يفعلون ذلك في مجال الكتابة. لا أعطي الحقّ لنفسي في أن أصادر حقهم في الوهم، لكنني لا أركب خلفهم.

  • مارأيك في واقع القلم العربي ومآله أمام طوفان التكنولوجيا؟

لست من النوع الذي يستعمل التكنولوجيا في يومياته حتى أنها تتعطل مصالحه كلّية إن هو استغنى عنها أو حرم منها، فأنا شخصيا لا أستطيع أن أستغني عن الهاتف واللابتوب وفيسبوك مثلا، لكنه يعامل التكنولوجيا على أنها خصم لقلمه، فلا يخلو مجلس من مجالسه أو مقال من مقالاته أو حوار من حواراته من الإشارة إلى ما تشكّله من تهديد له. أنا مطالب بأن أكون وفيا لفعل الكتابة لا للقلم أو اللابتوب أو أيّة وسيلة أخرى من وسائل الكتابة. وأملك الاستعداد لأن أكتب مستقبلا بأية وسيلة تجود علي بها فتوحات الحضارة. أصلا أنا أكتب هروبا من القيد، فلماذا أقع في عبودية ما هربت به؟

  • ما سرّ الإقبال الشديد للقارئ العربي على الرواية في الآونة الأخيرة؟

بغضّ النظر عن الثمار المخيبة للربيع العربي، والتي ليس هنا سياق مناقشتها، فهو تجربة بينت أشواق الإنسان العربي إلى الحرية والانعتاق والانطلاق والتعبير عن الذات وممارسة رغباتها. في ظلّ أنظمة عربية مارست عليه من القمع ما يساوي أو يفوق ما مارسته أنظمة الاحتلال الغربي، باستثناء الاحتلال الإسرائيلي لأنه من طينة منافية للإنسانية تماما. وإن الرواية طرحت نفسها، في ظلّ هذه الأشواق، بصفتها الجنس الأدبي الأقدر على استيعابها. ذلك أنّ الجنس الأدبيّ ليس معمارا وأسلوبا في البناء فقط، بل هو تصور للوجود. ولو كانت الأنظمة العربية مثقفة وكانت أجهزتها عارفة بالتحوّلات الفكرية المرافقة لتحولات الإنسان لمنعت الرواية كتابة ونشرا وقراءة، في مسعى منعها لكلّ ما تعتقد أنه يهدّد وجودها.

  • مشروع “الجزائر تقرأ” مشروع طموح لإحياء القراءة في أمة اقرأ. لكونك مدير النشر في هذا المشروع الكبير، ما الذي تحقق بالفعل؟ وماهي التحديات التي تواجهكم والآمال التي تطمحون لبلوغها؟

حين أطلق المدوّن قادة زاوي مشروع “الجزائر تقرأ” في شكل موقع متخصّص في القراءة كان الحكم السّائد في الفضاء الجزائري هو أنّ المقروئية فعل منقرض. هذا ما كان ولا يزال يردّه قطاع واسع من المثقفين والإعلاميين استنادا إلى حكم جاهز لم يتغيّر بمراعاة التحوّلات، التي رافقت مسار الجيل الجديد. فحدث أن استقطب الموقع مئات الآلاف من المعجبين، الذين حوّلوا المشروع إلى الواقع، فبتنا نجد مكتبات وتظاهرات وجمعيات تحمل اسم “الجزائر تقرأ” في معظم التجمّعات السّكنية. من هنا، جاءت فكرة إطلاق دار للنّشر الورقي حملت الاسم نفسه، وهي رغم أنه لم تكمل عامها الثّاني باتت من الدور التي يراهن عليها الكاتب والقارئ الجزائري الشّاب في تغيير ملامح خارطة النّشر في البلاد.

إنّ مشروع الجزائر تقرأ هو ثمرة للانسجام مع طبيعة الشارع الجديد في مجال المقروئية. وهو معطى غير مدروس وغير مرصود في ظلّ افتقاد وزارة الثقافة إلى استراتيجية في حقل الكتاب وهيمنة الناشر الذي لا يخطو خطوة بعيدا عن الدّعم الحكومي.

  • ماهي الأعمال الأدبية التي يعتز عبد الرزاق بكونه كاتبها؟

أملك مقبرة في ربوة الوعي لنصوصي التي آمنت بأنها فاشلة أو قاصرة أو كسيحة أو مستعجلة، فأستمتع بدفنها فيها، عوض دفعها للنشر. وقد أعود فأدفن نصا بعد أن أنشره بحرمانه من إعادة النشر مرة أخرى. ذلك أن الوعي بفعل الكتابة يتجلى في ما نشطبه أكثر مما يتجلّى في ما ننشره. من هنا، أقول إنّني سأظلّ أتعامل مع كلّ ما كتبته لحدّ اليوم على أنّه مجرّد تمارين تسخينية لنصوص حقيقية قادمة. هذا وعد وليس غرورا.

 

عبد الرزاق بوكبة

  • منصة استكتب هي مشروع ناشئ يهتم بصناعة المحتوى النصي، ما النصائح والتوجيهات التي يمكنها برأيك أن تسدد خطواتها ؟

باتت مساهمة اللغة العربية في المحتوى النّصّي من أكبر الرهانات التي يجب أن تخوضها. فإثبات الحضور لدى لغة من اللغات تجاوز الورقي إلى الالكتروني. وإن منصّة “استكتب” تملك من الرّؤية ما يؤهلها لأن تلعب دورا مهمّا في هذا الباب.