في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا سنة 1866، تقدم العالِم والموظف السامي الياباني هيسوكا ميجيما Hisoka Maegima باقتراح للتخلي عن الرقوم الصينية المستخدمة في اليابان منذ ألف عام. وأدان الكتابة الصينية بالقول” إن الصين امبراطورية ذات كثافة سكانية ومساحة شاسعة، ومع ذلك مازال شعبها بربريا، ومازال يعاني الإذلال على يد القوى الغربية. ويكمن سبب ضعفها الحقيقي في كتابتها الرسومية الفكرية، فهي تشكل عقبة أمام التعليم الشامل لشعب الصين”.

تأثر الإصلاحيون داخل الصين بالموقف الياباني، فدعوا للتخلي عن تلك العلامات الخطية المقدسة، باعتبارها سببا للهزائم التاريخية. كتب الموظف السامي في التربية لدى حكومة سلالة ال”كينغزهانغ هيلينغ قائلا:” إن كتابتنا تشكل حاجزا بين الأشياء والعقل، مثل القفل العصي الذي لا يكون فتحه في متناول جميع الناس، وعلى سبيل المقارنة فإن البلدان التي تستخدم الكتابة السهلة، تنعم بتقدم محقق على بلدنا، كتقدم التلغراف على البريد الذي يستخدم حصانا”.

الكتابة الصينية أقدم نظام للكتابة

 

الأحرف في الكتابة الصينية

الأحرف في الكتابة الصينية

تعد الكتابة الصينية أقدم نظام للكتابة يستخدمه ربع سكان العالم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم. وخلال هذا العمر الطويل لم يشهد سوى تعديلات طفيفة لم تؤثر على جوهره الفعلي. أما البداية الحقيقية لهذا النمط من الكتابة فمن الصعب تأكيدها، لأن أقدم ما عُثر عليه، ابتداء من سنة 1898 حتى حفريات مقاطعة هينان سنة 1928، هو كتابات منقوشة على ألواح برونزية، وعظام حيوانات، وأوعية وأواني كانت تستخدم للتنجيم خلال الفترة الممتدة بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر قبل الميلاد.

تضمنت النقوش المبكرة رسوما حسية بخط قديم يدعى “غو-فين“، لكن بعد اختراع ريشة الكتابة ظهر نموذج الكتابة النظامي العادي حوالي سنة 400 ميلادية، والذي حافظ الصينيون على طابعه العام حتى بعد اختراع الطباعة.

ويعد هذا النموذج من الكتابات الصعبة، نظرا لأشكاله التي تعد بالآلاف؛ فالكتابة الصينية تستعمل حرفا أو رسما واحدا لكل كلمة، لذا يحتاج القارئ العادي لأن يعرف ثلاثة آلاف رسم منها لقراءة النصوص العادية، بينما تحتوي القواميس والمصادر المرجعية على أزيد من أربعين حرفا إذا أضيفت الألفاظ النادرة. إلا أنها تحقق فائدة عملية في بلد تبلغ لهجاته المحلية حوالي مئة، بشكل يجعل التفاهم الشفهي شبه مستحيل. فالكتابة تدون المفهوم بالرمز نفسه حتى وإن اختلف لفظه من لهجة إلى أخرى.

أساسيات الكتابة الصينية

تقوم البنية الداخلية للكتابة الصينية على رسوم تُعبر عن مفاهيم، دون الارتباط بعلاقة صوتية. فالغابة يعبر عنها برسم شجرتين، وفعل “تحدث” برسم فم يخرج منه الزفير، وكلمة “وسط” برسم قرص وسهم، وهكذا. ثم تمت لاحقا إضافة رموز ذات عناصر صوتية تسمح باستخدام الرسوم للدلالة على مفاهيم مجردة.

تتميز الكتابة الصينية بخصائصها الفنية والأسلوبية، فالكلمات تشغل مربعات وهمية متساوية المساحة، ويتولى الخطاط ضغط اللمسات التي يتضمنها الحرف لتلائم الشكل المربع. وسرعان ما أصبحت خطوط الرسوم الأنيقة جزءا لا يتجزأ من التصوير الصيني، كما اندمجت مع مكونات الهندسة المعمارية، لتضفي على القصور والمعابد إحساسا فائقا بالمهابة والجلال.

أما اتجاه الكتابة فيسير من أعلى إلى أسفل في مربعات مرتبة فوق بعضها على شكل أعمدة متوازية. ويرجع سبب هذا النمط من الترتيب إلى شرائح قصب البامبو التي اعتمدها الصيني القديم لوحا للكتابة، والتي لا تتسع لأزيد من حرف واحد وطولها لا يتجاوز عشرين سنتيما.

أدوات الكتابة الصينية

قبل أن يكتشف الصينيون الورق استخدموا شرائط أعواد البامبو، ودروع السلاحف، وألواح الخشب. كما اعتمدوا الحرير لكونه لينا ومناسبا لتدوين النصوص الطويلة. وفي سنة 105 ميلادية اكتشف تساي لون طريقة أفضل وأرخص لإنتاج الورق، تعتمد على طحن لحاء الشجر، والخِرق البالية، وشباك الصيد القديمة، ثم تكوين عجينة يتم فرشها وتجفيفها للحصول على شرائح رقيقة ومتينة.

أما أدوات الكتابة فكان يُستعمل في الغالب قلم مصنوع من عود البامبو، إلى أن اكتشف الزعيم العسكري مينغ تين فرشاة ” بي”، وهي فرشاة مصنوعة من وبر الجِمال، تُناسب الكتابة على الحرير والورق. فكان لاستخدامها أثر كبير على الخط الصيني الذي أصبح فنا حقيقيا.

إن الارتباط القوي للصيني بكتابته لم يمنعه من التعرف على نظم كتابة سهلة ومبسطة، لتجاوز التعقيدات التي تطرحها الكتابة الصينية، خاصة فيما يتعلق بترجمة الكلمات الأجنبية. لذا شهدت الصين منذ عدة قرون، محاولات للانتقال من نظام الكتابة بالكلمة، إلى الكتابة الصوتية ذات الطابع المقطعي.

في الفترة ما بين القرنين الخامس والسادس الميلادي، ظهرت منظومة “فان تسي” لقراءة أصوات الرموز النادرة. فكانت الكلمة تقسم إلى مقطعين على نحو شبيه بالكتابة المسمارية.

وفي سنة 1913 ميلادية تأثر الصينيون بالكتابة اللاتينية التي حملها أفراد البعثات المسيحية، فوضعوا منظومة مقطعية تعتمد رموزا في غاية البساطة، وأسموها ” تشوين-تسيزيمو” أي الأبجدية الوطنية، وكان اتجاه الكتابة أفقيا، من اليسار إلى اليمين، كما هو الشأن في الكتابات الأوربية. لكن تلك الجهود لم تكلل بالنجاح المطلوب، لأن اعتماد كتابة جديدة يعني ببساطة انقطاع صلة الصيني المعاصر بتراث أسلافه.

إن السخط الذي عبّر عنه بعض المثقفين أواخر القرن التاسع عشر إزاء نظام الكتابة الصينية، ارتبط أساسا بنظرة الأوربيين المتعالية، ومحاولتهم ربط التقدم بمراجعة السياسة اللغوية للبلد. ومن الأفكار التي أثرت في المشهد الثقافي ما روج له الإرسالي الأمريكي آرثر سميث من أن نظام الكتابة للغة الصينية يسبب تشويشا في العقل، تماما مثلما تفضي حرارة الصين إلى القيلولة!

غير أن التكنولوجيا الحديثة ستحسم الموقف لصالح الرموز المهيبة، فالحاسوب اليوم أوجد حلا لنظام الكتابة على الشاشة، بل ذهب بعض المتحمسين إلى القول أنها أفضل من الحروف الأبجدية، لأنها تُعلّم اللغة بالصورة، وبالتالي فهي لغة جمالية مشبعة بالقيم الإنسانية. أما على مستوى التقنية الحديثة فهي تسمح بتكثيف جيد للمعلومات ونقل الرسائل.

في مؤلفه (قصة الحضارة) يدافع ويل ديورانت عن إحدى أهم خصائص الكتابة الصينية، وهي أنها سمحت للأمّيّ بأن يقرأ الأدب الصيني الذي ظل يُكتب بهذه الحروف نحو ألفي سنة كاملة. وشكلت بذلك عاملا قويا للاحتفاظ بالثقافة الصينية، وتمسك أهلها بعاداتهم وتقاليدهم، فكانت من أجلّ الأعمال العقلية، وأعلاها شأنا.

 

المراجع

– ويل ديورانت: قصة الحضارة. المجلد الرابع

– يوهانس فريدريش: تاريخ الكتابة

– آن شينغ: الفكر في الصين اليوم

 

حقوق الصورة داخل المقال