كيف تصنع محتوى؟

يقول الروائي البيروني ماريو بارغاس يوسا: “في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب فإنه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا “.

حين يقرر المرء أن يكتب فإنه يفعل ذلك لنفسه أولا. يكتب ليختبر ذاته وبصيرته وحكمه على الأحياء و الأشياء من حوله.

يكتب لأن هناك تداعيا مؤلما يتلاطم بين حناياه كالموج الهادر. ويكتب أيضا ليُمتع ويؤثر ويؤرق، ويلقي حجرا في بركة الروتين اليومي عله يُحدث دوائر حول الدوائر، فيهز الخط المستقيم الذي ملت الأقدام من المشي عليه!

لكن حين يكتب وعينه على المسابقات والأضواء الخاطفة. أو يكتب بيمينه بينما يسراه تحصي المعجبين كل ليلة في مواقع التواصل الاجتماعي.

حين يشعر بالخيبة أمام نقد واضح يقوم مساره، أو قراءة جادة تحدد هفواته، آنذاك يشير بوضوح إلى هويته ككاتب رديء.

لقد أصبحت كلمة السوق هي العليا فتسابق الهواة لاحتلال المواقع الأمامية، وفعل أي شيء للاستمرار في المقدمة. لكن في مجال الكتابة لا يمكنك أن تحطم كل المعايير، فهناك دائما خط واضح بين الكتابة الجيدة والرديئة.

إن مقياس المبيعات والجوائز والأوسمة لم يعد صدى للكتابة الجيدة، خاصة بعد أن تراجعت آليات النقد والغربلة أمام تهافت الناشرين، وبتنا نعاين للأسف الشديد ظاهرة صناعة الكاتب/النجم ، كما هو الشأن تماما في استوديوهات الطرب وملاعب الكرة.

تحاول العديد من وسائل الإعلام والمنابر الثقافية ملء الفراغ الحاصل في المشهد الأدبي بتسليط الضوء على المواهب الناشئة، في محاولة لإقناع نفسها أولا ثم القارئ بأن الدنيا “لسه بخير”.

لسنا نعترض هنا على التحفيز والتشجيع فهذا أمر جيد، لكن إحاطة الكاتب المبتدئ بهالة أضخم من حضوره وعطائه، وإضفاء بُعد فلكلوري على مشاركته في حدث ثقافي فهذا أمر يعزز الفراغ ولا ينفيه، لأن جوقة الطبالين لا تناسب الكاتب حين تنقله من خضم الكتابة إلى أريحية المهرج في حفل راقص!

يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عن شاب في الثالثة والعشرين من العمر، جاء إلى بيته بمدينة مكسيكو، وكان قد نشر روايته الأولى قبل ستة أشهر، ويشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلى ناشره؛ يقول ماركيز، أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فردّ علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره على أنه استهتار لا إرادي: “أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة لأن قلة من الناس يقرؤونني. إن ذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا ، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة !”.

إن الكتابة حقل شائك يتعزز فيه حضور الكاتب بمقدار ما يبذله من عناء وسعي جاد لتتبع الخيط الإنساني الرفيع، وسط عالم مليء بالصراع و الضجيج. والكاتب الجيد لا يصغي للهتاف بقدر ما يُنصت لنبض الواقع اليومي، ثم يحاول مواده إلى عالم متخيّل وشديد الحيوية.

يؤمن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأن الإنسان حين يبدأ بالاحتجاج يصبح أكثر جمالا. يمكننا قول الشيء ذاته عن الكتابة، فالإنسان حين يكتب يصبح أكثر إنسانية ووضوحا لأن الكتابة الجيدة أشبه بلعبة المرايا التي تتأرجح خلالها صورتنا بين التقعر والاحديداب، ثم تقودنا في نهاية المطاف إلى التصالح مع الذات، والاعتراف باستحالة المضي أبعد مما خطته المشيئة!