لا تقصني فأنا موجود

أهمية الرأي والرأي الآخر

 

هناكَ فرقٌ بيّنْ؛ ما بينَ تمرير الموروث الثقافي والمعرفي الثابت في النصوص المقطوعة؛ وبين تمرير الرأي والرؤية ووجهات النظر والاتجاهات والميول وتأويل النصوص بما يتفق وما نؤمن ونعتقد به!

 

لي الحق في أن “أُفَلْتِرْ” ما ترغب أنت في تمريره من آراء ورؤية، لي الحق في وضع ما تقول في ميزان محصِّلتي الفكرية والمعرفية وربما النقدية! لي الحق في أن أقبل أو أرفض ما تعتقده، فليس صحيحا أن تُقْصِني لأني لم أتقبّل ما ترى.. وليس صحيحا أن تفرض بالقوة رؤيتك بحجة أنك تراها الأصوب! بالرغم من أننا ندّعي أننا مجتمعات تؤمن بحرية الرأي والتعبير والديمقراطية، وبالرغم من أننا ندّعي كذلك أننا مجتمعات تنبذ الديكتاتورية والتحزبية والبيروقراطية المؤسساتية؛ إلا أننا أول من لا يطبق هذه النظرية في حياتنا وتعاملاتنا.

 

فكثيرا ما تتحكم فينا النزعة البشرية العنصرية والتعصبية والإنتصارية لفرض الرأي؛ فور شعورنا أن الآخر لم يتقبل رؤيتنا، ولم يُقنعه تأويلنا ولم ترقُ له تفسيراتنا!!

 

إن نظرية “أنت ترى، وأنا أرى” هي ما يُفترض أن نؤمن به، وإن الميزان الحقيقي والمعيار الدقيق الذي يجب أن يحكم ويُفاصل بيننا (إذا افترضنا تخلينا عن العنصرية والعصبية الفكرية) هو النص المقطوع أولاً، والحجة والدليل والبرهان ثانياً، وتحكيم العقل والمنطق، والخبرات السابقة المماثلة.

 

برغم كل وسائل التكنولوجيا والتطور العلمي والثقافي وازدياد الوعي بين شرائح المجتمع المختلفة؛ إلا أن نظرية “ما أُرِيكم إلا ما أرى” تتحكم فينا بشكل أو بآخر، وبنسب متفاوته من شخص إلى آخر، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط؛ إنما يتعداه إلى العداء الداخلي، وسرعان ما يتحول هذا الشعور العدواني الوجداني إلى دافع سلوكي ظاهر للإقصاء والنفي والاستبعاد، وهذه المسألة بالتحديد هي أساس مشاكل معظم الأفراد والمجتمعات والحكومات والدول على المستويات جميعها الإجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية!

 

إن حقيقة وُجود شريحة كبيرة من الناس أو الجماهير المنقادة والمقيدة بأغلال التفكير والسلوك الجمعي، لا تفترض أبداً إلغاء حقيقة وجود شرائح أخرى على مستويات معرفية وإدراكيّة أعلى ثقافياً وفكرياً؛ قادرة على التحليل والتفسير والنقد والمحاججة بأساليب علمية متزنة! فمن الخطأ الفادح افتراض أن الجماهير على مستوٍ واحدٍ من التفكير والمعرفة وتقدير وموزانة الأفكار والأمور، ومن الخطأ وضع جميع العقول في قوالب جاهزة معدة مسبقاً، فضلاً عن أن هذه القوالب الجاهزة لا تُعد أصلاً إلا مقبرةً لنظرية التجديد للأفكار المعاصرة التي تتوالد بإستمرار نتيجة لتطور المجتمعات وتغيّرها وتقلّبها، ولا تُعد إلا طريقاً تقليدياً شقه أصحاب المدارس الكلاسيكية متذرِّعين بمسألة ” نحن متّبعين ولسنا مبتدعين”!

 

ومن قال بأن التجديد هو طريق الابتداع؛ فقد قصر فهمه عن حقيقة وواقع المسألة..

 

إن هذه المدرسة أثبتت -بالرغم من كثرة متبعيها- أنها غير قادرة على خلق فئة من المبدعين والمبتكرين، وغير قادرة على إحداث طفرة نوعية في الأفكار والرؤى والأعمال والأداء، بما يحقق عملية التجديد والتطوير الذي تفتقر إليه مؤسساتنا ومجتمعاتنا المختلفة، وأنها غير قادرة على استيعاب النظريات التي تدعو إلى تحرير المفاهيم والمعتقدات من قوالبها!!

 

وأنا هنا لا أدعو إلى إلغاء هذه المدرسة أبداً، وإلاّ فقد أناقد نفسي فيما طرحته في البداية، وكما قلت ودعوت سابقاً لا بد من تقبّل الآخر وعدم إلغائه لأنه موجود، إنما أدعو إلى أن يتقبل أصحاب هذه المدرسة المدارس الأخرى التي تؤمن بنظرية “إعمال العقل لفهم النقل” وعدم إلغاء العقل خوف العبث في النقل والموروث أو خوف الابتداع.

 

ومن أهم الحلول التي أرها حلاً صحياً وصحيحاً لهذه المشكلة المتجذرة فينا على مر العصور والأزمان؛ هي محاولة كبح جماح النفس ونزعاتها الشريرة وإعادة توجيهها وتهذيبها لهدف واحد هو الانتصار للحق المحتكم للقرآن والسنة والعقل والمنطق السّوي، وأيضا من خلال الحوارات والمناقشات المنضبطة بأصول أخلاقية ومعرفية مبنية على أساس احترام الآخر وتقبله؛ ومحاولة تجنب الحد الذي يوصلنا إلى الكره والبغض والحقد والإقصاء.

 

بقلم رانية نصر -كاتبة فلسطينية حاصلة على ماجستير علاقات دولية

 

حقوق الصورة البارزة