بناء شخصية الأطفال

ظل عالم الحيوان لسنوات طويلة حقلا للفروض العلمية، والتجارب المخبرية، وفي غالب الأحيان لحماقات البشر التي أتلفت النظام البيئي برمته. لكن ليندا وريتشارد إير، في كتابهما ( بناء شخصية الأطفال )، قررا أن يشكل السلوك الحيواني مدخلا لتربية أسرية مثلى، ومناخ عاطفي تفتقر إليه جماعة العقلاء !

يثير المؤلفان في مقدمة الكتاب أسئلة حارقة، تهم خطأ التمثلات السائدة حول التربية، و التي صارت في وعي الأسرة الحديثة منحصرة في التنظيم والتوجيه، والتحكم المسبق في الوجهة التي ينبغي أن يسلكها الطفل ليكون مُرَحبًا به في عالم الراشدين. فهناك مبادئ أساسية تُمهد الطريق لتعلم القيم، وتُهَيء الأرضية الملائمة لتربية نؤديها بالعقل والقلب، كي نتعرف على أبنائنا ونُمَكنهم من الوصول إلى درجات أفضل.

إن الأطفال شتلات نبات، ومهمتنا أن نكتشف ماهيتها ونُمدها باحتياجاتها، ثم نتركها تنمو على النحو الذي جُبلت عليه. أما محاولة تشكيلهم كامتداد لذواتنا ورغباتنا فلن يؤدي سوى لإلحاق الأذى بهم. وأول ما ينبغي أن يشعر به الأطفال هو أن وجودهم يُمثل أولوية داخل الأسرة. ويمنحنا الإوز الكندي مثالا رائعا من خلال سلوك الأبوين الذي يعكس الالتزام الفائق تجاه الصغار، فالذكر يترك أي شيء كان يفعله ليلبي نداء استغاثة من الأنثى، ويعبر كلاهما عن الالتزام العائلي من خلال رعاية متواصلة للصغار. ولعل أجمل منظر يمكن أن يصادفه المسافر في طريقه هو ذكر الإوز الذي يبسط جناحيه وسط الطريق محذرا السائق من مغبة السير حتى تعبر الأم وصغارها.

المبدأ الثاني في بناء شخصية الأطفال

مبدأ ثان يستوحيه المؤلفان من سلوك السرطان حين يحاول تسلق جدار الوعاء للخروج منه، فيمد رفيقُه مخلَبه ليسحبه إلى الأسفل بدل أن يعزز جهده للإفلات. وهذا السلوك جزء من طبيعتنا البشرية التي يمثلها الحاسدون، والإخوة المتنافسون باحتدام شديد.

إن المطلوب أن نفعل العكس تماما مع صغارنا، فنبحث عن الطرق الكفيلة بتعزيز ثقتهم بأنفسهم، ونمدح جهودهم المتواصلة لبلوغ مستوى أفضل، والأهم من ذلك أن نكف عن محاولة ضبطهم متلبسينَ بارتكاب أخطاء.

قد يبدو قانون السرطان سهلا، لكنه صعب التطبيق في الحياة، لأن غريزتنا الأبوية تتضمن دوما عبارات النقد والتصحيح والتهذيب. وهذا يتطلب جهدا واعيا للتغلب على ميول شبيهة بالسرطانات.

وتُقَدم الحيتان ذات السنام درسا مهما في التواصل العاطفي المستمر، والتآزر والتآلف الجماعي بين أفراد الأسرة. حيث استطاع العلماء من خلال رصد أسلوب الحيتان في جمع الطعام، أن هذه الأخيرة تُحدث شبكة من الفقاعات التي تُمكنها من احتجاز الأسماك الصغيرة بداخلها، إلا أنها عملية تتطلب وجود حوت آخر على قدر كبير من التفاهم و التآلف، حيث يتم التواصل عن طريق أغنية. وأسرنا بحاجة إلى أغنية مماثلة للتواصل مع الصغار؛ أغنية مفادها الثقة والتعاون، والإصغاء المستمر والعميق.

ورغم المشية المتثاقلة للسلحفاة إلا أن لديها ميزة يمكن أن نسميها (سرعة المسير البطيء)، فهمي تملك خطة مسبقة، وقواعد مدروسة وراسخة. وفي السباق الشهير بين السلحفاة و الأرنب نكتشف أن قانون السلحفاة قانون هادئ، يؤمن بالتماسك والصلابة لا بالسرعة والذكاء. فلا يجب أن يكون صغارنا على عجلة من أمرهم، لأن المهم هو الصمود و المحاولة المستمرة، وتحديد الأهداف بشكل يساعدهم على الاسترخاء والمرونة ، والهدوء المفضي إلى تحقيق نتائج طيبة.

وفي عالم الأفيال يثير الخرطوم كأداة معقدة ومبهمة، دهشتنا بفعل التوازن الدقيق الذي يحققه بين الحزم والمرونة، والقوة والحساسية. فهو في غاية اللطف حين تعانق أنثى الفيل صغيرها، وقوي جدا حين تلتقط بدون جهد قطعة خشب يصل وزنها إلى ربع طن. والأسرة في علاقتها بأبنائها، تحتاج إلى توازن مماثل بين الحب والحزم. فالحب دون انضباط يفسد الأبناء، كما أن القواعد الصارمة تنتزع الفرح من العلاقات الأسرية. ويجدر بنا أن نوضح للصغار أن القواعد التي نسطرها لها علاقة بالأمان وليس بالثقة، وأن أفعال الآخرين هي التي تعرضهم للأذى وليس بالضرورة أفعالهم.

ومن الخواص الفريدة التي تتمتع بها أشجار السِيكُويا ذات الخشب الأحمر، أنها أضخم مخلوق في مملكة الطبيعة، إذ يتجاوز ارتفاعها مئة متر ووزنها ألفي طن. لكن ما يتيح لها الثبات أمام التعرض المستمر للرياح العاتية والصمود لسنوات طويلة هي شبكة الجذور الممتدة، و التي تلتحق بها كل شجيرة صغيرة حتى تنغرس عميقا، وتشعر بالتوازن و الرسوخ.

قانون الغابات الحمراء يحيل على الهوية والجذور المشتركة، وآلية الربط التي تعبر عن الانسجام العاطفي والروح المعنوية. ومثل أشجار السيكويا فنحن بحاجة لننقل إلى أطفالنا هويتنا المشتركة وميراثنا الحميم، وحين يشعرون بالارتباط الوثيق  من خلال المنظومة الأسرية، يسهل عليهم مساعدة الآخرين والتجاوب معهم.

ويُحكى أن اثنين من متسلقي الجبال اعترضَ سبيلَهما دب شرس، فأقبل أحدهما على حذائه يُمتن رباطه، فقال رفيقه مستغربا: هل تنوي أن تسبق الدب؟ أجاب: بل أنوي أن أسبقك أنت! وفي حياتنا اليومية عادة ما ننظر للأمور بمنظار هذا المتسلق: أي الهرب ومحاولة إبعاد أنفسنا عن المواقف الصعبة، وحرصنا على تجاوز الآخرين ليكونوا هم ضحايا المواقف الخطرة.

لكن الحياة الأسرية تُلزمنا بألا نسمح لأطفالنا باجتناب المسؤولية، وألا نُدعم الطرق الخاصة بالهرب وتجاوز المهمات، وبالتالي تفضيل راحتهم الخاصة مقابل ترك الأعباء الخطرة للآخرين. إن المسؤوليات مثل الدب في هذا الموقف، ستمسك بك مهما حاولت الهرب منها، لذا من الأفضل لك مواجهتها !

ومن طريقة طهي الضفادع، يستلهم المؤلفان مبدأ المسؤولية. إذ تعتمد هذه الطريقة على وضع الضفدع في بيئة مائية باردة، شبيهة بالتي كان يعيش فيها. فيسترخي الضفدع ويستكين، ويفقد إحساسه بالقلق والخطر إلى أن يغلي الإناء! ونحن بدورنا حين ننغمس في عملنا الرتيب ونشعر بالراحة، فإننا نفقد إحساسنا وتيقظنا، وفشلنا في ملاحظة الخطر المحدق بصغارنا، أو رصد طاقاتهم الفريدة واستغلال الفرص للقيام بعمل إيجابي.

بعكس الضفدع علينا أن نتابع ما يدور حولنا، وأن نبحث عن علامات الإنذار التي نراها ولا نشعر بها، وأن نخرج من منطقة راحتنا وافتراضاتنا التي توهمنا أن كل شيء على ما يرام.

وإذا كان حجم البراغيث ضئيلا، إلا أنها تستطيع أن تقفز لأكثر من مئتي ضِعف طولها، وأن تؤدي أكثر من ألف وثبة خلال ساعة من الزمن،  لذا اشتهر في أوربا خلال القرن التاسع عشر سيركُ البراغيث كشكل من أشكال الفرجة الشعبية.

كان يتم وضع البراغيث داخل علبة سجائر مغلقة، فتقفز لتصطدم بغطاء العلبة. وبعد مدة يتم نزع الغطاء فتستمر البراغيث بالقفز إلى الحد السابق دون أن تتجاوزه. وبعكس البراغيث ينبغي أن نحرر أطفالنا ونجعلهم ينطلقون إلى ما فوق الغطاء. فالحصول على السلطة والحرية يتيح للصغار أن يكشفوا عن إمكانياتهم الفريدة.

تابع المؤلفان عن كثب سلوك نماذج من عالم النبات والحيوان، ليستخلصا بالتالي تسعة من المبادئ التي يجب أن تسبق عملية التربية وتشكيل قيم الطفل وهويته. ومن خلال المتابعة للنماذج المقترحة، يتلمس المرء السبيل إلى اتخاذ قرارات واعية، يكون لها أكبر الأثر في تلبية حاجة الطفل للأمان والحرية، والشعور بالانتماء.

بقلم حميد بن خيبش – أستاذ وكاتب من المغرب

للاستماع للنص صوتيا من هنا.