لصوم أسراره ومعانيه التي لا يعرفها ولا يشعر بلذتها إلا الصالحون، فما هي أسرار الصوم ؟

سنتحدث في هذا المقال بعض من أسرار الصوم في شهر رمضان المبارك.

من أسرار الصوم

1.تدريب الصغار على الصيام

الصومُ مدرسةٌ للتربيةِ الروحيةِ، منهجُها ربانيّ، والمعلمُ هو سيدُ الخلقِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وقد فرضهُ الله تعالى على الأمةِ الإسلاميةِ في شهرِ رمضانَ من كلِ عامٍ؛ ولذا وجبَ اغتنامُ كلِ لحظةٍ منه في عملٍ صالحٍ يُقَربُ العبدَ من ربِّه عز وجل، ولعلَ من أعظمِ القُرباتِ تربيةُ الصغارِ على الصومِ حتى قبلَ سنِ التكليفِ، أي قبلَ سن البلوغِ؛ لينشأوا على طاعةِ اللهِ تعالى، ومجاهدةِ النفسِ، وأداءِ الفرائضِ.

وفي الطفلِ غرائزُ الفضولِ، وحبُ تقليدِ الكبارِ، وإظهارُ القوةِ والجَلَدِ، وهذه الغرائزُ يمكنُ توجيهُها التوجيهَ الرشيدَ لتثُمر شخصيةً إسلاميةً سويةً، تحب عملَ الخيرِ، وتسعى إليه.

وقد أدركَ الصحابةُ الكرامُ هذه الحقائقَ، وسلكُوا النهجَ القويمَ في تربيةِ أبنائِهم.

تقول الرُّبَيِّع بنتُ مُعَوِّذ فيما رواه البخاري ومسلم: “كنا نَصُومُ ونُصَوِّم صبياننا الصغارَ منهُم، ونذهبُ إلى المسجد، فنجعلُ لهم اللعبةَ من العِهْن (أي من الصوف) فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناه إياه، حتى يكونَ عندَ الإفطارِ”.

(أي أعطيناه هذا الصوف يتلهى به حتى يحين موعد الإفطار).

ويمكنُ للوالدينِ أن يدربوا صغارَهم على صومِ بعضِ ساعاتِ من النهارِ، تَقلُ أو تكثرُ بحسب قدرتِهمْ، على ألا يكونَ فيه مَضرةٌ على صحتهم.

2.إني صائم

يُعد شهر رمضان دورة تدريبية سنوية للمسلمين على ضبط النفس وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة ” إني صائم” لندفع بها أي استفزاز قد نصادفه في صيامنا

يُعدُ شهرُ رمضانَ دورةً تدريبيةً سنويةً للمسلمينَ في كلِ مكانٍ على ضبطِ النفسِ، وكبْحِ جماحِ شهواتِها، وتمكينِ المسلم من التحكمِ في جوارحِه، حفاظًا على صيامِه من أن يخدِشه قولٌ غيرُ لائقٍ أو تصرفٌ غير مقبولٍ، وليَنالَ أجرَه من الله تعالى كاملاً غير منقوصٍ، ولذا وجبَ على المسلمِ أن يحفظَ لسانه من الكذبِ والغيبةِ والنميمةِ، والخوضِ في أعراضِ الناسِ، والسبِ وقولِ الزورِ، وغيرِها من الآفاتِ اللسانيةِ الُمدمرةِ.

وأن يحفَظَ سمعَه وبصرَه عن تتبُع عوراتِ الناسِ، والتجسسِ على أسرارِهم، وتحسُّسِ مالا يُحبون نشرَه من أخبارِهم، فذلك كلُّه مما يَقدَحُ في صوْمِ المسلمِ، ويُضيّعُ أجرَه، مِصداقاً لقولِ الرسولِ الأمينِ صلى الله عليه وسلم:” من لم يَدعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بهِ فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه”.

وقد حثَ صلى الله عليه وسلم الصائمينَ على ضبطِ انفعالاتِهم، وعدمَ الاستجابةِ لنزغاتِ الشيطانِ في نفوسِهم، فقال:” إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتَلَه فليقلْ إني امرؤٌ صائمٌ ” رواه البخاري .

 ولقد أحسنَ الشاعرُ القائلُ:

إذا لم يكنْ في السمعِ مني تصامُم     وفي ناظري عمى، وفي منطِقي صْمت

فحظي من صومي هو الجوعُ والظَّما    وإن قلتُ إني صمتُ يوما فما صمتُ

3. دروس الصوم

قال بعضُ الحكماءِ: نورُ القلبِ من أربعةِ أشياءٍ: بطنٌ جائعٌ، وصاحبٌ صالحٌ، وحِفظُ الذنبِ القديمِ، وقِصَرُ الأملِ.

ولذا فإن الصومَ فرصةٌ عظيمةٌ يستعيدُ فيها المرءُ نورَ قلبِه وبصيرتِه، ويقفُ مع نفسِه وقفةَ محاسبةٍ ومراجعةٍ، فيُقَوّم المُعوَج من سلوكِها، ويعززَ الإيجابيَ منه.

والصومُ مدرسةٌ لتعليمِ الكثيرِ من الفضائلِ، ومن أعظمِها الصبرُ على مشقةِ الجوعِ والعطشِ، والقدرةُ على قهرِ الشهوة، وضبطُ النفسِ عند الغضبِ، ومخالفةُ مرادِها، وإخضاعُها لمرادِ الله تعالى، ومن أخضعَ نفسه لمُراد الله تعالى ورسولِه طيلةَ ثلاثينَ يوماً يكونُ بإمكانه إخضاعُها على الدوامِ، وبذلك يسودُ في المجتمع طرازٌ من الأقوياءِ الذين يُحققون لهذا الدينِ رسالتَه، ويرفعونَ أعمدةَ الحضارة والرقي والازدهارِ في أمتِهم ؛ لأن التغلبَ على النفسِ هو الخطوةُ الأولى على طريقِ تذليلِ كل الصِعوباتِ، وتخطي جميعِ العقباتِ.

ومن الدروسِ المستفادةِ من الصومِ كذلك لزومُ سُنةِ النبي صلى الله عليه وسلم في التوسطِ والاعتدالِ، وتجنبِ الغلوِ في الدينِ وفي سائرِ التصرفاتِ، فمن سُنتِه الشريفةِ أنَهُ كانَ يصومُ ويُفطرُ، ولا يُحرمُ طيباتِ ما أنزلَ الله له من رزقٍ، ترسيخاً لوسطيةِ هذا الدينِ الذي تتناغمُ تعاليمُه مع الفطرةِ الإنسانيةِ السليمةِ … فطرةِ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها.

اللهم انصرْ دينَك وكتابَك، واهدِنَا بهدي نبيكَ ورسولِك محمد صلى الله عليه وسلم… اللهم آمين.

4.من الهدي النبوي في رمضان

لم يتركْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صغيرةً ولا كبيرةً من أمورِ الدين إلا علَّمَ  أمتَه إياها، فأدى الأمانةَ حق الأداءِ، وبلغ الرسالةَ أعظمَ ما يكونُ التبليغ.

وكان من هديِه الشريفِ في شهرِ رمضانَ أن يُفطرَ على تمراتٍ، ويجعلهُن وِترا، فإن لم يجدْ فعلى حسَوات من الماءِ، وقد حثّ أمته على ذلك فقال:

“إذا أفطرَ أحدُكم فليفطرْ على تمرٍ فإنه بركةٌ ، فإن لم يجد فليفطرْ على ماء ، فإنه طَهور “. رواه أحمد والترمذي.

وكان يحثُّ على تعجيلِ الفِطر بمجرد غروبِ الشمس رحمةً بالصائمين، فقال: “إذا أقبلَ الليلُ من ها هنا وأدبرَ النهارُ من ها هنا وغرُبت الشمس فقد أفطر الصائم”. أخرجه الشيخان.

وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل لحظةَ الإفطارِ بالدعاء، وفي ذلك يقول: “ثلاثةٌ لا تُرد دعوتهم: الصائمُ حتى يُفطر، والإمامُ العادل، والمظلومُ” رواه الترمذي.

ومن هديه الكريمِ: الحثُ على تناولِ السَحور تقويةً للصائم، ومخالفةً لصوم أهلِ الكتاب، وفي الحديث: “فضلُ ما بين صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب، أكْلة السَحور ” رواه مسلم.

وكان يحثُ على تأخيرِ السحورِ؛ فقد ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: تسحَّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاةِ. قلت: كم كان بين الأذانِ والسَحور؟ قال: قدرُ خمسينَ آية ” رواه البخاري.

5.تسحروا

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“السَّحورُ بركةٌ، فلا تدَعُوه ولو أن جرَعَ أحدُكم جرعةَ ماء، فإن اللهَ وملائكتهُ يُصلون على المُتسحرّين ” رواه أحمد.

بهذا الهديِ النبويِ الكريم، بَيّنَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قيمةَ السحورِ للمسلمينَ استعداداً للصيامِ.

فالسَحورُ بركةٌ، أي زيادةٌ ونماءٌ في الخيرِ؛ وذلك لِمَا فيه من امتثالٍ لِهَديِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولِمَا فيهِ مِنْ تقويةٍ للصائمِ على العبادةِ والعملِ لكسبِ الرزقِ الحلالِ، والتخفيف من مشقةِ الجوعِ والعطشِ في وقتِ الصيامِ.

ولأنَّ دينَنا الإسلاميَ الحنيفَ دينُ رحمةٍ وشفقةٍ، فقدْ جعلَ وقتَ السَحورِ ممتداً حتى طلوعِ الفجرِ. قال تعالى: ” وكلوا واشربوا حتى يتبينَ لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجر”. البقرة 187

كما جُعِلَ من السُنةِ تأخيرُ السحورِ… ففي الحديثِ الذي أخرجهُ الإمام أحمد في مُسنَده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزالُ أمتي بخير ما عجَّلوا الفِطر وأخروا السحوَر”.

وعن عمرو بنِ مَيمون قال: كان أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعجلَ الناسِ إفطاراً، وأبطأهُم سَحورا

 

6.الاعتكاف

من السننِ الشريفةِ المُقترنةِ بشهرِ رمضانَ المبارك سنةُ الاعتكافِ، وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يداومُ عليها في العشرِ الأواخرِ من رمضان من كل عام، إلا العامَ الذي قُبضَ فيه، اعتكفَ فيهِ عشرينَ يوما، كما جاءَ في صحيحِ البخاري.

والمقصودُ بالاعتكافِ لزومُ المسجدِ مدةً محددةً ينويها المعتكِفُ؛ بقصْدِ التقربِ إلى الله تعالى، وعبادتِه، وتفريغِ القلب من شواغل الدنيا، والأنسِ بالله تعالى وحده، ذكراً، وصلاة، وتلاوة للقرآن، وحضوراً لمجالس العلم، فيخرجُ من مُعْتَكَفِهِ بعد انتهاءِ مدتِه وهو أكثرُ قرباً من ربِّه، وأقوى صلةً به سبحانه، وأكثرُ ثباتا على دينِه.

ومن شروطِ الاعتكافِ: النيةُ، وأن يكونَ في المسجدِ؛ لقولِه تعالى: “ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد” البقرة-187، وألا يخرجَ المعتكفُ من مُعْتَكَفِهِ إلا لحاجةٍ لابدَ منها، كتشييعِ جنازةٍ، أو عيادةِ مريضٍ، أو علاجٍ من مرضٍ ألمَّ به.

كما ينبغي أن يكونَ المسجدُ جامعاً حتى لا يُضطرَ للخروج منه لأداءِ صلاةِ الجمعةِ، ويجوزُ للمرأة زيارةَ زوجِها المعتكِفِ، ولهُ أن يودّعَها إلى بابِ المسجدِ.

ويبطُلُ الاعتكافُ عندَ الخروجِ من المسجدِ لغيرِ حاجةٍ ضروريةٍ، ومُباشَرةِ الزوجة، كما يُعدُ باطلاً لحدوثِ حيضٍ أو نفاسٍ، وإغماءٍ أو جنونٍ، أو قطعِ نيةِ الاعتكافِ.

اللهم أذقنا حلاوةَ القربِ منكَ، والأنسِ بك، ولا تحرمنا لذةَ النظرِ إلى وجهِك الكريمِ… يا رب.

7.الصوم هدنة

ما إنْ يظهرْ في الأفقِ هلالُ شهرِ رمضانَ المباركِ حتى يرافقَه في المجتمعِ المسلمِ- بل في الكونِ برُمته- تغيّرٌ عجيب، يعقدُ الصائمونَ على أَثرِه هدنةً مع ما ألِفوه من همومِ الحياةِ وضجيجِها، ومن عِراكٍ يومي مع مُتطلباتِ العيشِ ومُنَغصاتِه.

يحملُكَ رمضانُ على أن تعقدَ هدنةً عل جبهاتٍ عدةٍ؛ لتنْعَمَ خلالَه ببيئةٍ إيمانيةٍ صافيةٍ نقية، يسعى خلالَها قلبُك وجوارحُكَ لتحصيلِ الغنائمِ من ثوابٍ ورضاً ومغفرةٍ ورحمةٍ وعتقٍ من النارِ.

تعقدُ هُدنةً مع البطنِ، فيكونُ رمضانُ شهرَ حِمْيَةٍ وتَقَلُّل، لا شهرَ تُخَمَةٍ وولعٍ بتعددِ الأطباقِ وتنوعِها، أو هكذا ينبغي أن يكون.

وتعقدُ هُدنةً مع اللغوِ وفضولِ الكلامِ، فتكبحُ جِماحَ لسانكَ، فلا ينطقُ إلا بذكرٍ أو دعاءٍ أو تلاوةٍ للقرآنِ، أو بأمرٍ بمعروفٍ، أو نهيٍ عن منكرٍ، أو نصحٍ وإرشادٍ، أو سعيٍ للإصلاحٍ بين الناسِ.

وهُدنةً مع النومِ والخمولِ والكسلِ، فتصُفّ قدميكَ لقيامِ الليلِ، والإكثارِ من النوافلِ تقرُّباً إلى اللهِ عز وجلَّ.

وهُدنةً معَ الأهلِ والأقرباءِ، فتُسامحَ مَنْ أخطأَ، وتَصْفحَ عمن أساءَ، وتعفُو عمَّن ظَلَم، وتتخلصْ من أسبابِ الخصومةِ والجفاءِ.

ثم هُدنةً مع أنانيةِ النفسِ وحرصِها، فتجعلَ للآخرينَ نصيباً من جُهدِك ومالكَ وتفكيركَ، لتُحققَ مقصِدًا مُهماً من مقاصدِ الصومِ وهو: الشعورُ بألمِ المحتاجينَ، وإشراكُهم فيما أفاءَ اللهُ عليك من الفضلِ والنعيمِ.

8.الصوم محاسبة

منَ الْمقاصدِ السُّنيَّةِ لِشهرِ رمضانَ المُباركِ أنْ يُهيَّئَ للمسلِمِ أسبابُ المُحاسبَةِ، وجردُ الْمعاصِي والزَّلاتِ الَّتِي دَعَتْ إليْها النَّفسُ الأمَّارةُ بِالسُّوءِ، أو الْهوَى المُضِلِّ، أو الشيطانُ اللَّعينُ. والسِّرّ فِي الْمحاسَبةِ أنْ يُراجِعَ الْعبدُ خَطَّ سيرِهِ إلَى الله تعالى، فيستعرِضَ أعمالَ الأمْسِ واليوْمِ؛ لِيتَداركَ مَا فاتَهُ قبْلَ فواتِ الأوَانِ.

ولَعَلَّ مِنْ أهَمِّ بُنودِ الْمحاسَبَةِ الَّتي يَجدُرُ بِالمسْلمِ أنْ يَطرَحهَا عَلَى نفْسِهِ كلَّمَا اِنْقضَى يومٌ مِنْ صِيامِهِ:

  • هلْ أنَا مُصمِّمٌ حَقاً على تحصيلِ الثوابِ والعِتْقِ من النارِ، أم هي الأمَانِي الَّتي لا يؤازِرُها العملُ المخلِصُ والجهْدُ الدَّؤوبُ؟
  • أ مازالتِ العباداتُ ثقيلةً على النَّفْسِ أم أنَّ القلبَ تعوّدَ علَى حلاوَةِ الطاعةَ، فلا يشْعُرُ بالرَّاحةِ والسَّكينةِ إلاَّ حينَ يَصف المرءُ قدميْهِ بينَ يديْ ربِهِ، ويحتملُ الْجوعَ و الظَّمأَ حُبًّا لِمولاهُ وطاعةً لهُ وشوقًا إلَى الْقربِ مِنْهُ؟
  • وهلْ اِستشْعرَ هذا القلْبُ مَحبَّةَ الله أمْ مَازالَ أسيرَ شَواغلِ الدُّنيَا وعَرَضِهَا الزَّائلِ؟

ما أجملَ الْعملَ بالنَّصيحةِ الْحكِيمَةِ: “حاسِبُوا أنْفسكُمْ قبلَ أنْ تُحاسَبُوا، وزِنُوا أعْمالَكُمْ قبلَ أنْ توزَنَ عَليْكُمْ”!

وقديماً قيلَ: مَنْ حاسَبَ نفْسَهُ فِي الدُّنْيا، خفَّ حِسَابُه فِي الآخرَة.

للاستماع للحلقات على أبل بودكاست يمكنك الضغط هنا ( مبادرة خفيفة )

 (( خفيفة- مبادرة المحتوى السهل، برعاية استكتب، وسونديلز)).