خُلق الإنسان من طين، ثم نزل إلى هذه الدنيا ليعانق الطين مجددا في رحلة معاشه. منه حبة القمح التي تسدّ جوعه، وآنية الفخار التي تحفظ طعامه وشرابه، واللبنات التي ترفع بنيانه. والأهم من ذاك: صور الآلهة العديدة التي يدفع بها شرور الطبيعة ويستجلب خيراتها.

ويبدو أن طول الألفة بين الاثنين دفعهما إلى البوح بأسرار الوجود، فقدم الطين ألواحه، وخط الإنسان بالقلم مبتدأ الحكاية. هكذا وُلدت الكتابة المسمارية على ضفاف الرافدين خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد.

حكاية الطين المقروء، الكتابة المسمارية

كانت الحاجة ماسة إلى وسيلة تدوين، تساعد على حفظ سجلات المعابد، وضبط مواردها الاقتصادية. وفي هذا الصدد كشفت التنقيبات الأثرية التي أجريت في القسم الجنوبي من بلاد الرافدين أن العراقيين القدماء استخدموا رموزا طينية، وكرات مجوّفة، وأختاما منوعة كوسائل للإخبار والإحصاء والتذكر. غير أن التطور الذي عرفته بلاد سومر، دفع إلى إرساء نظام كتابي على درجة من التطور والتعقيد.

علامات الكتابة المسمارية

ورد في قصة الحاكم السومري إيتمركار مع سيد ارّاتا نص يشير إلى ميلاد أولى العلامات الكتابية. يقول النص:” صنع كاهن كلّاب الأعلى بعض الطين، وكتب عليه كلمات كما لو كان رقيما. في تلك الأيام لم تكن الكلمات المكتوبة على رُقَم الطين موجودة بعد. أما الآن فمع شروق الشمس، كتب كاهن كلّاب الأعلى كلمات على الرقيم، وهكذا كان..”

كيف ولماذا استخدم الطين في الكتابة المسمارية

لكن قبل الحديث عن علامات الكتابة المسمارية، والمراحل التي قطعتها، لابد من السؤال عن السر وراء استخدام الطين، في الوقت الذي توجهت حضارات أخرى إلى استخدام الجلود والبَرْدي وقطع النسيج كمواد للكتابة.

لعبت جغرافية العراق القديم دورا في توجيه السكان القدماء لاستخدام الطين. فأرض الرافدين رطبة، ترويها المياه بغزارة، إضافة إلى أن المناخ يتمتع بدرجة عالية من الرطوبة، مما يُعرض مواد الكتابة الأخرى لسرعة التلف. وساء تعلّق الأمر بهذا المعطى الجغرافي، أو بدافع وفرة الطين وسهولة استخدامه، وانعدام تكلفته، فإن الألواح الطينية التي تم العثور عليها في عدد من مدن العراق، حفظت للإنسانية ثلاثة آلاف عام من الأحداث والمنجزات الحضارية، لبلاد الرافدين، والشام، وإيران، ومصر وصولا إلى جزيرة كريت.

كان على الكاتب ومساعده أن يُعد ألواح الطين جيدا لتسهيل عملية الكتابة. فيبدأ عادة بغسل الطين وتنقيته من الشوائب، ثم تخميره لمدة محدودة، مع إضافة بعض المواد، كالتبن مثلا، لزيادة تماسكه.

يُصنع لوح مربع أو قُرصي أو مستطيل بحجم راحة اليد، ثم تُسوّى حوافه وزواياه باليد أو بقلم خشبي، ويُغطى بطبقة من الطين الناعم لتساعد على طبع العلامات بدقة. أما أداة الكتابة فكانت عبارة عن قلم يشبه المسمار، له شكل المثلث المنشوري ومصنوع من المعدن المدبب.

في حالة استعمال لوح كبير، يحرص الكاتب على تغطيته بقماش مبلل للمحافظة على طراوته حتى ينتهي من عملية الكتابة، كما يُحدث تجاويف صغيرة على سطح اللوح، تحسبا لأي تشقق ناتج عن جفاف الطين، أو يكتفي بطبع خطوط أفقية لتعليم السطور، وللمحافظة على تماسك اللوح في الآن نفسه.

وعندما يتصلّب اللوح تصبح عملية الكتابة مستحيلة، كما يصعب تغيير أو تزوير علاماتها، وتلك إحدى أسرار الكتابة المسمارية. إلا أن التصلب السريع حال دون إمكانية استخدام الطين في تسجيل الحسابات الجارية والمستمرة، مما دفع إنسان العراق القديم إلى استبداله بألواح الخشب المغطى بطبقة من الشمع، منذ العصر الآشوري المتأخر.

مراحل تطور الكتابة المسمارية

مرت الكتابة المسمارية بثلاث مراحل بارزة، فخلال المرحلة الصورية اعتمد الكاتب السومري على تصوير الأشياء المادية بشكل تقريبي، وإلى جانبها أرقام تشير إلى العدد أو الكمية. لذا كانت أغلب الألواح المكتشفة ذات مضامين اقتصادية ومدرسية، تضم قوائم الإيرادات من الأطعمة والمنسوجات، ووصولات تسليمِها؛ كما تتضمن أنواع الحرف والمعادن والأسماك والطيور لأغراض تعليمية.

أدى التعبير عن الأشياء برسمها إلى تضخم عدد العلامات. وقد تمكن الباحثون من حصر مالا يقل عن ألفي (2000) علامة في الرُقم والألواح التي تم العثور عليها في مدينة “أوروك“. لذا ولتسهيل مهمة الكتابة لجأ الكتبة إلى تقليص العلامات المستخدمة، إما بدمجها، أو اختزال أشكالها بحذف التفصيلات الدقيقة. ونظرا لصعوبة التعبير بالصور عما يجول في الذهن من خواطر وأفكار، فقد برزت الحاجة إلى تبسيط الكتابة، وتحويل العلامة الصورية إلى رموز لإكسابها معان جديدة.

مع المرحلة الرمزية أصبحت العلامة لا تُعبّر عن الشيء الذي تُصوره فقط، بل عن الأفكار ذات الصلة. وهكذا لم تعد صورة القدمين تعبّر عن القدمين فحسب، بل توسعت دلالتها لتشمل معاني المشي، والوقوف، والركض، والجري.

والصورة التي تدل على النجمة، صارت تستخدم كإشارة للإله، وللسماء، وللعلو، وهكذا..

ونتيجة التطور الحضاري الذي عرفته البلاد، تجددت الحاجة إلى تعبير لغوي الدقيق، يهتم بالصوت الذي تُقرأ به العلامة دون المعنى الصوري. فاهتدى النساخ العراقيون إلى ابتكار الطريقة الصوتية التي تعد آخر وأهم مراحل تطور الكتابة المسمارية.

كانت الخطوة الأولى هي تمثيل الكلمات المتشابهة لفظا بعلامة واحدة. فأصبحت العلامات الصوتية أشبه بالحروف الأبجدية التي نستخدمها اليوم . وساعدت طبيعة اللغة السومرية في استخدام كتابة مقطعية، لأن جل المفردات اللغوية تتكون من مقاطع أحادية.

ظلت الكتابة المسمارية هي النظام الأكثر شيوعا طيلة ثلاثة آلاف سنة، نظرا لمرونته، وقدرته على استيعاب مفردات لغات أخرى مثل الأكدية والأشورية. لكن مع بداية القرن الأول الميلادي، سيبدأ الخط الآرامي الأبجدي بالانتشار، بفضل رموزه القليلة وسهولة كتابته.

كيف استطاع العالم فكّ رموز الخط المسماري وقراءته؟

على سفح جبل”بيهستون قرب مدينة كَرْمَنشاه، عثر ضابط إنجليزي يدعى رولنسون على مدونة بثلاثة خطوط مسمارية، هي العيلامية القديمة، والفارسية القديمة، والبابلية. كانت المدونة منقوشة على جرف صخري حاد، يزيد ارتفاعه عن 130 مترا، وتتألف من حوالي 400 إشارة. وقد تمكن رولنسون من استنساخ الكتابة، وعمل قالب لها، لتبدأ لاحقا مرحلة فك الرموز.

اعتمد رولنسون على جهود المنقب الفرنسي Potta والإنجليزي Layard التي تكللت بالنجاح في فك رموز الكتابة العيلامية القديمة. فتمت مقارنة أسماء الأعلام الواردة في المدونة بالعيلامية مع نظيرتها المكتوبة بالعلامات المسمارية. وتدريجيا تم فك رموز الكتابة البابلية بصعوبة، كما استغرق الأمر مدة طويلة. غير أن الشكوك راودت عددا من الباحثين حول صحة ما توصل إليه رولنسون وزملاؤه، فقررت الجمعية الملكية الآسيوية في لندن سنة 1857 تكليف علماء آخرين بتحليل الرموز السومرية بشكل منفصل، فجاءت النتائج متطابقة.

نص من الكتابة السومرية

من بين آلاف الألواح التي حفظت أسرار الكتابة السومرية، نص يشير إلى اعتزاز إنسان العراق القديم بهذه الهبة التي خصّته بها الآلهة، ومما جاء فيه:

” إن الكتابة بيت الغنى وسر آلهة الأنوناكي..

اعمل دون توقف في الكتابة، وستكشف لك الأسرار..

إذا أهملت الكتابة سيشار إليك بالسخرية..

الكتابة حظ سعيد فيه الغنى والرفاهية..”

ونستمر في سرد حكاية الكتابة، لتكون محطتنا القادمة على ضفاف النيل وحكاية الكتابة الهيروغليفية

لمشاهدة الفيديو الخاص بالحلقة يمكنكم تتبع الرابط من هنا.