عامر التميمي

زاهد أُعطي اثنتين ومُنع الثالثة!

ينطوي الزهد على سعي لإحداث التوازن بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد، بل وتغليب الروح للجم ما تسببه الشهوات من ضغط على القيم و المبادئ. لكن في ظروف الرخاء المادي، وانتقال الحكم الإسلامي إلى طور الإمبراطورية التي انتهت إليها  كنوز الروم وفارس، فإن الزهد أصبح تحديا قاسيا، واستثناء صارما أمام دواعي الإقبال على زينة الحياة الدنيا.

إلى زمرة التحدي هاته ينتسب التابعي الجليل عامر التميمي بن عبد الله ، الذي هاجر من نجد إلى مدينة البصرة، ليكون على ثغر من ثغور المسلمين مطلع العشرية الثانية للهجرة، بعد أن صدر القرار من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لتكونَ البصرة معسكرَ جيوش الإسلام الموغلة في أرض فارس.

عامر التميمي في البصرة

فور دخوله البصرة لزم عامر التميمي واليَها أبا موسى الاشعري رضي الله عنه، فأخذ عنه القرآن غضا طريا كما أنزل على فؤاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتفقه على يديه ثم أقبل على الخلوة والعبادة حتى دُعي بين الناس بعابد البصرة وزاهدها. غير أن التميمي لم يكن من صنف الزهاد الذين يعتزلون المجتمع وهمومه. بل أثبت غير ما مرة حسّ المسؤولية الملقاة على عاتق كل مسلم، في الصدع بالحق والنهي عن المنكر؛ الأمر الذي جرّ عليه أذى الناس، وسعيهم لدى الخليفة لتدبير المكيدة له.

عاشت البصرة مشهدا دافع فيه عامر التميمي عن العدل كدعامة للحكم الرشيد، أمام ظلم لاحت بوادره زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فبعض رجال السلطة نقلوا أدوارهم داخل المجتمع الإسلامي من الإدارة و التدبير إلى التسلط، وهو ما لم يقبله التميمي، وتصدى له في واضحة النهار دون أن يخشى في الحق لومة لائم.

أمسك أعوان صاحب الشرطة برجل من أهل الذمة لينظف حديقة سيدهم رغما عنه، فكان الذمي يصيح ويستغيث بينما الأعوان ممسكون بخناقه، فتدخل عامر لإنقاذ الرجل بعد أن تبين له أنه مكره على هذا العمل، و لا يطيقه لكونه من أعمال السخرة التي لا تليق بمواطن يؤدي واجبه نحو الدولة كاملا. وتجمع الناس ليعينوا التميمي على رفع الظلم، فاتهمه صاحب الشرطة بنبذ الطاعة، ورفع أمره إلى الخليفة عثمان .

 كانت قائمة الاتهام تتضمن الخروج على السنة والجماعة، والعزوف عن الزواج، والترفع عن حضور مجالس الولاة، والإعراض عن أكل اللحم و الجبن.

في مجلس الخليفة فنّد عامر التميمي التهم الموجهة إليه مستدلا بالكتاب والسنة ، غير أن نيران الشر لم تنطفئ، فأمره الخليفة بالانتقال إلى بلاد الشام، والإقامة فيها تحت سمع وبصر واليها معاوية بن أبي سفيان.

نال التميمي ما يليق به من إجلال وتكريم، واختار بيت المقدس داراً لمقامه حتى توفاه الله ولسانه رطب بذكره سبحانه.

حاجات عامر التميمي الثلاث

في حياة التميمي مشاهد ومواقف تكشف حرصه على الزهد الذي توجه  النفس من خلاله كل طاقاتها للعبادة، وتتخفف من أحمال الدنيا وأعباء الشهوات. ومن طريف ما يروى في هذا الباب أنه صحب إحدى القوافل في سفره، فلما أقبل الليل خلا بنفسه في رابية ملتفة الشجر، ثم استقبل القبلة وقام يصلي، غير أن رجلا من أهل البصرة لحقه لينظر ما يصنع فكان شاهدا على ما يطمح إليه التميمي في ركعاته ودعائه، ومناجاته لربه والناس نيام!

مضى التميمي في صلاته حتى تنفس الصبح، ثم أقبل يدعو قائلا:” اللهم ها قد أصبح الصبح  وطفق الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإن لكل منهم حاجة، وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له..

اللهم فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين..

اللهم إني سألتك ثلاثا؛ فأعطيتني اثنتين و منعتني واحدة. اللهم إني أسألك فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد..”

لما علم التميمي أن الرجل يلاحقه ويرقبه التمس منه أن يستر ما رآه وسمعه، لكنه أبى إلا أن يعلم ما هي الثلاث التي حدث بها عامر ربه أو يخبر الناس بما رأى. فلما رأى التميمي إصراره قال: لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة لقيت أم جدارا.

والثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحدا غيره، فاستجاب لي حتى أني والله ما أرهب شيئا في الأرض ولا في السماء سواه.

قال الرجل: والثالثة؟

قال التميمي : سألت ربي أن يُذهب عني النوم حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد، فمنعني هذه. ثم أردف: والله لاجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النار فبتقصيري!