إياس المزني ..نباهةُ قاضٍ

لم يهنأ بال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز على قضاء البصرة حتى اختار له تابعيا جليلا، ذاعت فطنته في الناس وتغنى بها الشعراء! حيث أن أبا تمام لما مدح أحمد بن المعتصم جمع له الخصال في بيت مشهور قائلا:

إقدام عمرو في سماحة حاتم    في حِلم أحنف في ذكاء إياس

ولد إياس المزني بن معاوية في اليمامة سنة ست وأربعين للهجرة، ونشأ وتعلم بالبصرة. ثم تردد على دمشق ليأخذ العلم عمن بقي من طبقة الصحابة رضوان الله عليهم. وظهر نبوغه المبكر حتى صار حديث الناس وعنوانا على صدق الحديث ورجاحة العقل.

فطنة إياس المزني

ومن أخبار فطنته وهو بعد غلام أنه كان يتلقى دروس الحساب في كُتاب رجل يهودي. وحدث يوما أن اجتمع عند اليهودي بعض بني عشيرته، وتناولوا في حديثهم أمور الدين فقال أحدهم:

– ألا تعجبون للمسلمين، يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوطون؟

التمس إياس المزني من معلمه أن يتكلم، فلما أذن له توجه للسائل وقال:

– أكُل ما يؤكل في الدنيا يخرج غائطا؟

قال الرجل :لا

قال إياس: فأين يذهب الذي لا يخرج؟

رد الرجل: يذهب في غذاء الجسم؟

فقال إياس: إذن ما وجه الاستنكار منكم، إذا كان بعض ما نأكله في الدنيا غذاء أن يذهب كله في الجنة في الغذاء؟

كان إياس المزني سليل بيت علم ودين، وشاءت عناية الله تعالى أن يكون ذكاؤه في خدمة القضاء وحل المشكلات التي تعترض المسلمين في حياتهم اليومية. ففي فضاء مجتمعي دبت إليه عوامل الترف واهتزاز القيم، كان لا بد من فطنة تَصحب القضاء، ومن دهاء يُعين على رفع الظلم ورد الحقوق إلى أهلها.

مجمل الأخبار التي تناولت ذكاء إياس المزني في شبابه تكشف حاجة المجتمع إلى توظيف القدرات الفذة، وتوجيه المهارات وجهتها الصحيحة فيما ينفع الناس. لذا كان تعيينه قاضيا على البصرة من طرف الخليفة عمر بن عبد العزيز، دليلا على أن تولية “الأكفأ” هي عنوان الحكم الراشد.

من شواهد فطنته أن الناس خرجوا يوما يلتمسون هلال رمضان، وفي مقدمتهم الصحابي الجليل أنس بن مالك وهو يومئذ شيخ كبير. فنظر الناس إلى السماء فلم يروا شيئا، لكن أنس كان يحدق في السماء ويقول: لقد رأيت الهلال، ها هوذا.. وأشار بيده غير أن أحدا لم ير شيئا.

انتبه إياس إلى أن في الأمر خطأ، فلما دنا من أنس رأى شعرة طويلة في حاجبه تتدلى أمام عينه. فاستأذنه ومسح الشعرة بيده وسواها، ثم سأل أنس: أترى الهلال الآن يا صاحب رسول الله؟

أجاب أنس: كلا ما أراه.. كلا ما أراه!

دهاء إياس المزني

في مجلس إياس يتضح أن الدهاء من أهم الخصال التي ينبغي أن يتمتع بها القاضي إلى جانب العلم و السيرة الحسنة، خاصة حين يدب الفساد وتتراجع القيم. ومما يحكى في هذا الباب أن رجلا في الكوفة كان يُظهر للناس شيئا من الورع والتقوى حتى صاروا يتركون أموالهم عنده وديعة، ويجعلونه وصيا على أهلهم وأبنائهم.

وذات مرة استودعه رجل مالا، فلما جاء لأخذه أنكره الرجل وقال: لم تترك عندي شيئا. فتوجه صاحب المال إلى القاضي إياس ليُنصفه.

قال إياس : أعلم صاحبك أنك تأتيني؟

قال: كلا

قال: انصرف وعُد إلي غدا.

ثم أرسل إياس إلى الرجل وقال له: اجتمع لدي مال كثير لأيتام لا كافل لهم، ورأيت أن أودعه لديك، فهل منزلك حصين ووقتك متسع؟

رد الرجل : نعم أيها القاضي!

قال إياس: تعال بعد غد وأحضر معك حمالين ! ثم استدعى المشتكي وقال: اذهب إليه واطلب مالك، فإن أنكره فقل له: سأشكوك إلى القاضي .

عاد الرجل إلى المحتال وطلب ماله، وهدد برفع الأمر إلى القاضي، فأرجع له ماله وطيب خاطره. وحين توجه إلى القاضي ومعه الحمالون زجره إياس وفضحه أمام الملأ قائلا: بئسَ الرجل أنت يا عدو الله، أجعلت الدين مصيدة للدنيا؟

حقق حضور هذا التابعي الجليل في مجلس القضاء إضافة نوعية لأساليب فض النزاعات وردّ الحقوق إلى أصحابها. وكان لسيرته ومواقف فطنته ورجاحة عقله دور في ترسيخ النباهة كشرط من شروط تدبير هموم الناس!